الثلاثاء, يناير 28, 2014
الاسلام للجميع
الكاتب : صديق حسن خان القنوجي
الحمد لله الذي هو كما وصف نفسه فوق ما يصفه به خلقه .
والصلاة والسلام على رسوله محمد عبده الذي تبين في كل شيء رشده وصدقه ،
وعلى آله وصحبه الذين تمسكوا بهديه واتبعوا سبيله كما كان حقه .
وبعد :
فاعلم أن جملة ما عليه أصحاب الحديث والسنة هو :
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله .
ومن الإيمان بالله ؛ الإيمان بما وصف الله به نفسه المقدسة في كتابه العزيز
وبما وصفه به رسوله محمد من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا
تأويل .
فيؤمنون بالله سبحانه وتعالى وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، ولا ينفون
عنه ما وصف به نفسه ، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ، ولا يلحدون في أسمائه
وآياته ، ولا يكيفون ، ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه ، ولا يعطلونها ، لأنه
سبحانه لا سمي له ولا كفو له ولا ند له ، ولا يقاس بخلقه لأنه { ليس كمثله
شيء وهو السميع البصير } .
وهو سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا من خلقه ، ورسله
صادقون مصدقون - بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون - ولذلك قال : {
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين }
، فسبح نفسه عما وصف به المخالفون للرسل ، وسلم على المرسلين لسلامة ما
قالوه من النقص والعيب والخلل والزلل .
وقد جمع الله سبحانه وتعالى فيما وصف به نفسه بين النفي والإثبات .
فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاءت به المرسلون فإنه الصراط المستقيم
صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
ومن هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص - التي تعدل ثلث القرآن -
على لسان محمد ، فقال : { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم
يكن له كفوا أحد }.
وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتاب الله حيث يقول : { الله لا إله إلا هو
الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا
الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من
علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي
العظيم } ، ولهذا كان من قرأ الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا
يقربه شيطان حتى يصبح .
ومنه قوله : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم }. وقوله :
{ وهو العليم الحكيم }. وقوله : { وهو الحكيم الخبير }. وقوله : { يعلم ما
يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها }. وقوله : {
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو يعلم ما في البر والبحر وما تسقط من
ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين
}. وقوله : { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه }. وقوله : { ولتعلموا
أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما }. وقوله : { وتوكل
على الحي الذي لا يموت }. وقوله : { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين }.
وقوله : { ليس كمثله شيء وهو السميع العليم }. وقوله : { إن الله كان
سميعا بصيرا }. وقوله : { ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا
بالله }. وقوله : { إن الله يحكم ما يريد }. وقوله : { فمن يرد الله أن
يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد
في السماء }. وقوله : { والله يحب المحسنين }. و : { إن الله يحب المقسطين
}. و : { يحب التوابين ويحب المتطهرين }. وقوله : { قل إن كنتم تحبون الله
فاتبعوني يحببكم الله }. وقوله : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه }.
وقوله : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا }. وقوله : { وهو الغفور
الودود }. وقوله : { بسم الله الرحمن الرحيم }. وقوله : { ربنا وسعت كل
شيء رحمة وعلما }. وقوله : { وكان بالمؤمنين رحيما }. وقوله : { ورحمتي
وسعت كل شيء }. وقوله : { كتب ربكم على نفسه الرحمة }. وقوله ( وهو الغفور
الرحيم }. وقوله : { فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين }. وقوله : { رضي
الله عنهم ورضوا عنه }. وقوله : { وغضب الله عليه ولعنه }. وقوله : { ذلك
بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه }. وقوله : { فلما آسفونا انتقمنا
منهم }. وقوله : { ولكن كره الله انبعاثهم }. وقوله : { هل ينظرون إلا أن
يأتيهم الله في ظلل من الغمام }. وقوله : { أو يأتي ربك }. وقوله : { وجاء
ربك }. وقوله : { ويبقى وجه ربك }. وقوله : { كل شيء هالك إلا وجهه }.
وقوله : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي }. وقوله : { بل يداه مبسوطتان
ينفق كيف يشاء }. وقوله : { فإنك بأعيننا }. وقوله : { تجري يبأعننا }.
وقوله : { لتصنع على عيني }. وقوله : { إنني معكما اسمع وأرى }. وقوله : {
ألم يعلم أن الله يرى }. وقوله : { الذي يراك حين تقوم }. وقوله : { فسيرى
الله عملكم ورسوله والمؤمنون }. وقوله : { وهو شديد المحال }. وقوله : {
ومكرنا مكرا }. وقوله : { أكيد كيدا }. وقوله : { فإن الله كان عفوا قديرا
}. وقوله : { ولله العزة ولرسوله }. وقوله عن إبليس : { فبعزتك لأغوينهم
أجمعين }. وقوله : { هل تعلم له سميا }. وقوله : { فلا تجعلوا لله أندادا
}. وقوله : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا }. وقوله : { قل الحمد
لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل
وكبره تكبيرا }. وقوله : { له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير }.
وقوله : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له
ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء
فقدره تقديرا }. وقوله : { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا
لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب
والشهادة فتعالى الله عما يشركون }. وقوله : { فلا تضربوا لله الأمثال إن
الله يعلم وأنتم لا تعلمون }.
وقوله : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على
العرش }. وفي سورة يونس مثله ، وفي سورة الرعد : { الله الذي رفع السموات
بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش }، وفي سورة طه : { الرحمن على العرش
استوى }، وفي سورة الفرقان : { ثم استوى على العرش }، وفي سورة السجدة : {
الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش
}، وفي سورة الحديد : { هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى
على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج
فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير }.
فهذه سبعة مواطن أخبر فيها بأنه سبحانه استوى على العرش ، وفي هذه المسألة
أدلة من السنة والآثار الصحيحة الكثيرة يطول بذكرها الكتاب ، فمن أنكر كونه
سبحانه في جهة العلو بعد هذه الآيات والأخبار فقد خالف الكتاب والسنة .
وقد ثبت بالأدلة الصحيحة ؛ أن الله خلق سبع سموات بعضها فوق بعض وسبع أرضين
بعضها أسفل من بعض بين الأرض العليا والسماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام ،
وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة عام ، والماء فوق السماء العليا
السابعة ، وعرش الرحمن عز وجل فوق الماء ، والله عز وجل على العرش ،
والكرسي موضع قدميه ، وهو يعلم ما في السموات والأرضين السبع وما بينهما
وما تحت الثرى وما في قعر البحر ومنبت كل شعرة وشجرة وكل زرع ونبات ومسقط
كل ورقة وعدد كل كلمة وعدد الرمل والحصى والتراب ومثاقيل الجبال وأعمال
العباد وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم ويعلم كل شيء لا يخفى عليه من ذلك شيء ،
وهوعلى العرش فوق السماء السابعة ، دونه حجب من نار ونور وظلمة ، وما هو
أعلم به .
فإن احتج مبتدع ومخالف بقول الله عز وجل : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد
}، وبقوله { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم
ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا } ونحو هذا من متشابه
القرآن .
فقل : إنما يعني العلم ، لأن الله عز وجل فوق السماء السابعة العليا يعلم ذلك كله ، وهو بائن من خلقه لا يخلو عن علمه مكان .
وليس معنى ذلك أن الله في جوف السماء ، وأن السماء تحصره وتحويه ، فإن هذا
لم يقله أحد من سلف الأمه وأئمتها ، بل هم متفقون على أن الله فوق سموته
على عرشه بائن من خلقه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته هي ولا في ذاته من
مخلوقاته .
وقد قال مالك بن أنس : ( إن الله في السماء وعلمه في كل مكان ).
وقيل لابن المبارك ( بماذا تعرف ربنا ؟ ) ، قال : ( بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ) ، وبه قال أحمد ابن حنبل .
وقال الشافعي : ( خلافة أبي بكر قضاها الله في سمائه وجمع عليها قلوب أوليائه ).
فمن اعتقد أن الله في جوف السموات محصور محاط ، أو أنه مفتقر إلى العرش أو
غير العرش من المخلوقات ، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على
كرسيه ، فهو ضال مبتدع جاهل .
ومن اعتقد أنه ليس في السموات إله يعبد ولا على العرش إله يصلى له ويسجد ،
وأن محمدا لم يعرج به إلى ربه ، ولا نزل القرآن من عنده ، فهو معطل فرعوني ،
فإن فرعون كذب موسى في أن ربه فوق السموات ، فقال : { يا هامان ابن لي
صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا
} ، ومحمد صدق موسى فأقر أن ربه فوق السموات ، فلما كان ليلة المعراج عرج
به إلى الله وفرض عليه ربه خمسين صلاة ، وذكر أنه رجع إلى موسى ، وأن موسى
قال : ( ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ) ، وهذا الحديث في الصحاح ،
فمن وافق فرعون وخالف موسى ومحمدا فهو ضال .
ومن مثل الله بخلقه فهو ضال ، ومن جحد شيئا ما وصف الله به نفسه فهو كافر ، وليس ما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله تشبيها .
وقد قال تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه }. وقال
تعالى : { يا عيسى إن متوفيك ورافعك إلي }. وقال : { بل رفعه الله }. وقال :
{ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق }. وقال : { تنزيل
الكتاب من الله العزيز الحكيم }. وقال تعالى : { وله من في السموات والأرض
ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون }.
فدل ذلك على أن الذين عنده قريبون إليه وإن كانت المخلوقات تحت قدرته ، فالقائل الذي قال " من لا يعتقد أن الله في السماء " ؛
إن أراد بذلك أن الله في جوف السماء بحيث تحصره وتحيط به ، فقد أخطأ .
وأن أراد بذلك " من لم يعتقد ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة
وائمتها ، أن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه " ، فقد أصاب ، فإن
من لم يعتقد ذلك يكون مكذبا للرسول متبعا غير سبيل المؤمنين ، بل يكون في
الحقيقة معطلا لربه نافيا له ، فلا يكون في الحقيقة إنه يعبده ولا رب يسأله
ويقصده ، ولهذا قول الجهمية ونحوهم من اتباع فرعون المعطل .
والله قد فطر العباد عربهم وعجمهم على أنهم إذا دعوا الله توجهت قلوبهم إلى
العلو ولا يقصدونه تحت أرجلهم ، ولهذا قال بعض العارفين : ( لم يقل عارف
قط يا الله إلا وجد في قلبه ، أن يتحرك لسانه ) ، يعني بطلب العلو ولا
يلتفت يمنة لا يسرة .
والقائل الذي يقول إن الله لا ينحصر في مكان .
إن أراد بذلك أن الله لا ينحصر في جوف المخلوقات أو أنه لا يحتاج إلى شيء منها ؛ فقد أصاب .
وإن أراد أن الله ليس فوق السموات ، ولا هو على العرش ، وليس هناك إله يعبد ، ومحمد لم يعرج به إلى الله ، فهذا جهمي فرعوني معطل .
ومنشأ الضلال ؛ أن يظن الظان أن صفات الرب كصفات خلقه ، فيظن أن الله
سبحانه على عرشه كالملك المخلوق على سريره ، فهذا تمثيل وضلال ، وذلك أن
الملك مفتقر إلى سريره ولو زال سريره لسقط ، والله غني عن العرش وعن كل شيء
، وكل ما سواه فقير إليه ، وهو حامل العرش وحملته ، وعلوه لا يوجب افتقاره
إليه ، فإن الله قد جعل المخلوقات عاليا وسافلا ، وجعل المعالي غنيا عن
السافل ، كما جعل فوق الأرض وليس هو مفتقر إليها ، وجعل السماء فوق الهواء
وليست محتاجة إليه ، فالعلي الأعلى رب السموات والأرض وما بينهما أولى أن
يكون غنيا عن العرش وسائر المخلوقات ، وإن كان عاليا عليها سبحانه وتعالى
كما يقول الظالمون علوا كبيرا .
والأصل في هذا الباب ؛ أن كل ما ثبت في كتاب الله أو سنة رسوله وجب التصديق به ، مثل علو الرب واستوائه على عرشه ونحو ذلك .
واما الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات ، مثل قول القائل في جهة وهو
متحيز أو ليس بمتحيز ونحوها من الألفاظ التي تنازع فيها الناس ، فليس مع
احدهما نص لا عن الرسول ولا عن الصحابة التابعين لهم باحسان ولا أئمة
المسلمين ، فإن هؤلاء لم يقل أحد منهم إن الله في جهة ، ولا قال ليس هو في
جهة ، ولا قال هو متحيز ، بل ولا قال هو جسم أو جوهر ، ولا قال ليس بجسم
ولا جوهر ، فهذه الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع .
والناطقون بها قد يريدون معنى صحيحا وقد يريدون معنى فاسد ، فمن أراد معنى
صحيحا موافق الكتاب والسنة كان ذلك مقبولا منه ، وإن أراد معنى فاسدا مخالف
الكتاب والسنة كان ذلك المعنى مردودا عليه .
فإذا قال القائل : إن الله في جهة ، قيل له ما تريد بذلك ؟ أتريد أنه
سبحانه في جهة موجودة تحصره وتحيط به ؟ مثل أن يكون في جوف السموات ، أم
تريد بالجهة أمرا عدميا ، وهو ما فوق العالم ؟ فإنه ليس فوق العالم شيء من
المخلوقات .
فإن أردت الجهة الوجودية وجعلت الله محصورا في المخلوقات ، فهذا باطل .
وإن أردت الجهة العدمية ، وأردت أن الله وحده فوق المخلوقات بائن عنها ،
فهذا حق ، وليس في ذلك أن شيئا من المخلوقات حصره ولا أحاط به ولا علا عليه
العالي ، بل هو العالي المحيط بها ، وقد قال تعالى : { وما قدروا الله حق
قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه }.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي : ( أن الله يقبض الأرض يوم القيامة ويطوي
السموات بيمينه ثم يهزهن فيقول " أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ " ) .
وقد قال ابن عباس : ( ما السموات والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا
كخردلة في يد أحدكم ) ، وفي حديث آخر ؛ أنه يرميها كما ترمي الصبيان الكرة
، فمن يكون جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى إلى هذا الصغر
والحقارة كيف تحيط به وتحصره ؟
ومن قال ؛ إن الله ليس في جهة ، قيل له : ما تريد بذلك ؟ فإن أراد أنه ليس
فوق السموات رب يعبد ولا على العرش إله ، ومحمد لم يعرج به إلى الله ،
والأيدي لا ترفع إلى الله تعالى في الدعاء ولا تتوجه القلوب إليه ، فهذا
فرعوني معطل جاحد لرب العالمين ، وان يعتقد أنه مقر به ، فهو جاهل متناقض
في كلامه .
ومن هنا دخل أهل الحلول والاتحاد ، وقالوا : إن الله في كل مكان ، وان وجود المخلوقات هو وجود الخالق .
وإن قال : إن مرادي بقوله " إنه ليس في جهة " أنه لا تحوط به المخلوقات بل هو وجود الخالق ، قال : أصاب في هذا المعنى .
وكذلك من قال إن الله متحيز ، أو قال ليس بمتحيز، إن أراد بقوله متحيز ؛ أن
المخلوقات تحوزه وتحيط به، فقد أخطأ، وان أراد منحاز عن المخلوقات بائن
عنها عال عليها، فقد أصاب.
ومن ليس بمتحيز ؛ إن أراد أن المخلوقات لا تحوزه فقد أصاب، وإن أراد أنه
ليس مباينا عنها بل هو لا داخل فيها ولا خارج عنها، فقد أخطأ .
والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف :
أهل الحلول .
وأهل النفي والجحود .
وأهل الإيمان والتوحيد والسنة .
فأهل الحلول : يقولون إنه بذاته في كل مكان، وقد يقولون بالإتحاد والوحدة ، فيقولون المخلوقات وجود الخالق .
وأما أهل النفي والجحود : فيقولون لا هو داخل العالم ولا خارجه ، ولا مباين
له ولا حال فيه ، ولا فوق العالم ولا فيه ، ولا ينزل منه شيء ولا يصعد
إليه شيء ، ولا يتقرب منه شيء ولا يدنو منه
شيء ، ولا يتجلى لشيء ولا يراه أحد . . . ونحو ذلك ، وهذا قول متكلمة الجهمية المعطلة ، كما أن الأول قول عباد الجهمية .
فمتكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا ، وعباد الجهمية يعبدون كل شيء ، وكلامهم يرجع إلى التعطيل والجحود الذي هو قول فرعون .
وقد علم أن الله كان قبل أن يخلق السموات والأرض ثم خلقهما ، فإما أن يكون
داخلا فيهما ، وهذا حلول باطل ، وإما أن يكون داخلا فيه ، فهو باطل ، وأبطل
وإما ان يكون الله بائنا عنهم لم يدخل فيه ، وهذا قول أهل الحق والتوحيد
والسنة .
ولأهل الجحود والتعطيل في هذا الباب شبهات يعارضون بها كتاب الله وسنة
رسوله وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها وما فطر الله عليه عباده وما دلت
عليه الدلائل العقلية .
فإن هذه الأدلة كلها متفقة على أن الله فوق مخلوقاته عال عليها ، قد فطر
الله على ذلك العجائز والأعراب والصبيان في الكتاب ، كما فطرهم على الإقرار
بالخالق تعالى .
وقد قال رسول الله في الحديث الصحيح : ( كل مولود يولد على الفطرة أي فطرة
الإسلام فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهمة جمعاء هل
تحسون فيها من جدعاء ) ، ثم يقول أبو هريرة : ( اقرؤا إن شئتم { فطرة الله
التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } .
وهذا معنى قول عمر بن عبد العزيز : ( عليك بدين الأعراب والصبيان في الكتاب
) ، يعني عليك بما فطرهم الله عليه ، فإن الله فطرهم على الحق ، والرسل
بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتحويل الفطرة وتغييرها .
وأما أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية ونحوهم ؛ فيريدون أن يغيروا فطرة الله
ودين الله ، ويوردون على الناس شبهات بكلمات متشابهة لا يفهم كثير من
الناس مقصودهم بها ، ولا يحسن أن يجيئهم ، وأصل ضلالتهم تكلمهم بكلمات
مجملة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قالها أحد من أئمة
المسلمين ، كلفظ " التحيز " و " الجسم " و " الجهة " ونحو ذلك ، فمن كان
عارفا بحال شبهاتهم بينها ، ومن لم يكن عارفا بذلك فليعرض عن كلامهم ولا
يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة ، كما قال تعالى : { وإذ رأيت الذين
يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } ، ومن تكلم في الله
وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة فهو من الخائضين في آيات الله
بالباطل .
وكثير من هؤلاء ينسب إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه ، فينسبون إلى الشافعي
وأحمد بن حنبل ومالك وأبي حنيفة الاعتقادات الباطلة مما لم يقولوه ،
ويقولون لمن اتبعهم هذا الذي يقوله اعتقاد الإمام الفلاني ، فإذا طولبوا
بالنقل الصحيح عن الأئمة بين كذبهم في ذلك فيما ينقلونه عن النبي ويضيفونه
إلى سنته من البدع والأقوال الباطلة ، ومنهم من إذا طولب بتحقيق نقله يقول
هذا القول قاله العلماء والإمام الفلاني لا يخالف العقلاء ، ويكون العقلاء
طائفة من اهل الكلام الذين ذمهم الأئمة .
فقد قال الشافعي : ( حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ، ويطاف
بهم في القبائل والعشائر ، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على
الكلام ) ، فإذا كان هذا حكمه فيمن أعرض عنهما ، فكيف حكمه فيمن عارضهما
بغيرهما .
وكذلك قال أبو يوسف القاضي : ( من طلب الدين بالكلام تزندق ) .
وكذلك قال احمد بن حنبل : ( ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح ) .
وقال علماء الكلام زنادقة .
وكثير من هؤلاء قرأوا كتبا من كتب الكلام فيها شبهات أضلتهم ولم يهتدوا
لجوابهم ، فإنهم يجدون في تلك الكتب أن الله لو كان فوق الخلق للزم التجسيم
والتحيز والجهة ، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ، ولا ما أراد بها
أصحابها ، فإن ذكر لفظ الجسم في أسماء الله وصفاته بدعة لم ينطق بها كتاب
ولا سنة ، ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها ، ولم يقل أحد منهم إن الله
جسم ، ولا أن الله ليس بجسم ، ولا أن الله جوهر ، ولا أن الله ليس بجوهر ،
ولفظ " الجسم " لفظ مجمل ، ومعناه في اللغة البدن ، ومن قال أن الله مثل
بدن الإنسان فهو مفتر على الله ، بل من قال الله يماثل شيئا من المخلوقات
فهو مفتر على الله ، ومن قال إن الله ليس بجسم وأراد بذلك أنه لا يماثله
شيئا من المخلوقات فالمعنى صحيح ، وإن كان اللفظة بدعة ، وأما من قال أن
الله ليس بجسم ، وأراد بذلك أنه لا يرى في الآخرة ، وأنه لم يتكلم بالقرآن
العربي بل القرآن العربي مخلوق أو هو تصنيف جبريل ونحو ذلك ، فهذا مفتر على
الله فيما نفاه عنه .
وهذا أصل ضلال الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم على مذهبهم ، فإنهم يظهرون
للناس التنزه ، وحقيقة كلامهم التعطيل ، فيقولون ؛ نحن لا نجسم ، بل نقول
إن الله ليس بجسم ، ومرادهم بذلك نفي حقيقة أسمائه وصفاته ، فيقولون ليس
لله علم ولا قدرة ولا حياة ولا كلام ولا سمع ولا بصر ، ولا يرى في الآخرة ،
ولا عرج النبي إليه ، ولا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء ، ولا يتجلى
لشيء ، ولا يقرب منه شيء . . . إلى غير ذلك .
وهو سبحانه لا مثل له في شيء من صفات كماله ، بل هو الأحد الصمد ، ولم يكن له كفوا أحد .
فالمعطل يعبد عدما ، والممثل يعبد صنما ، والمعطل أعمى ، والممثل أعشى ، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه .
وكما أن ذاته ليست كالذوات المخلوقة ، فصفاته ليست كالصفات المخلوقة ، بل
هو سبحانه موصوف بصفات الكمال منزه عن كل نقص وعيب ، وهو سبحانه في صفات
الكمال لا يماثله شيء .
فمذهبنا ، مذهب السلف : إثبات بلا تشبيه ، وتنزيه بلا تعطيل ، وهو مذهب
أئمة الإسلام كمالك والشافعي والثوري والأوزاعي وابن المبارك والإمام أحمد
واسحاق بن راهوية .
وهو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم ، كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الدارني
وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم ، فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول
الدين .
وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه ، فإن الإعتقاد الثابت عنه موافق لاعتقاد هؤلاء ، وهو الذي نطق به الكتاب والسنة .
قال الإمام أحمد : ( لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله ، ولا نتجاوز القرآن والحديث ) .
وهكذا مذهب سائرهم ، فنتبع في ذلك سبيل السلف الماضين الذي هم أعلم الأئمة
بهذا الشأن - نفيا واثباتا - وهم أشد تعظيما لله وتنزيها له عما لا يليق
بحاله .
فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات ، فيكون ردها من
باب تحريف الكلم عن مواضعه ، ولا يقال هي ألفاظ لا تعقل معانيها ولا يعرف
المراد منها ، فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون إلا أماني ، بل هي آيات
بينات دالة على أشرف المعاني وأجلها ، قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا
العلم والإيمان ، إثبات بلا تشبيه ، وتنزيه بلا تعطيل ، كما قامت حقائق
سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك ، فكان الباب عندهم بابا واحدا قد اطمأنت
به قلوبهم كذلك ، وسكنت إليه نفوسهم ، فأنسوا من صفات كماله ونعوت جلاله
مما استوحش منه الجاهلون المعطلون ، وسكنت قلوبهم إلى ما نفر منه الجاحدون
المتكلمون ، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات ، فكما أن ذاته سبحانه لا
تشبه الذوات فكذا صفاته لا تشبه الصفات ، فما جاءهم من الصفات عن المعصوم
تلقوه بالقبول وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار ، لعلمهم بأنه صفة من لا
تشبيه لذاته ولا لصفاته ، وأن ما جاء مما اطلقه الشرع على الخالق والمخلوق
لا تشابه بينهم في المعنى الحقيقي ، إذ صفات القديم بخلاف صفات الحادث ،
وليس بين صفاته وصفات خلقه إلا موافقة اللفظ للفظ .
والله سبحانه وتعالى قد أخبر أن في الجنة لحما ولبنا وعسلا وماء وحريرا
وذهبا ، وقال ابن عباس : ( ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء ) ،
فإذا كانت هذه المخلوقات الفانية ليست مثل هذه الموجودة مع اتفاقهما في
الأسماء ، فالخالق جل وعلا أعظم علوا وأعلى مباينة لخلقه من مباينة المخلوق
للخالق ، وإن اتفقت الأسماء ، وأيضا فقد سمى الله سبحانه نفسه حيا عليما
سميعا بصيرا ملكا رؤوفا رحيما ، وسمى بعض مخلوقاته حيا وبعضها عليما وبعضها
سميعا بصيرا وبعضها رؤوفا رحيما ، وليس الحي كالحي ولا العليم كالعليم ولا
السميع كالسميع ولا البصير كالبصير ولا الرؤوف الرحيم كالرؤوف الرحيم .
قال تعالى : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم }. وقال : { يخرج الحي من
الميت ويخرج الميت من الحي }. وقال : { وهو العليم الحكيم }. وقال : {
وبشروه بغلام عليم }. وقال : { إن الله كان سميعا بصيرا }. وقال : { إنا
خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا }. وقال : { إن
الله بالناس لرؤوف رحيم }. وقال : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما
عنتم حريص بالمؤمنين رؤوف رحيم } .
وليس بين صفة الخالق والمخلوق مشابهة إلا في اتفاق الاسم .
وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره ، وهذه سنة رسول الله ، وهذا كلام الصحابة
والتابعين وسائر الأئمة ، قد دل ذلك بما هو نص أو ظاهر في أن ؛ الله
سبحانه فوق العرش فوق السموات ،
استوى على عرشه ، بائن من خلقه ، سميع لا يشك ، بصير لا يرتاب ، عليم لا
يجهل ، جواد لا يبخل ، حفيظ لا ينسى ولا يسهو ، قريب لا يغفل ولا يلهو ،
يتكلم ويبسط وينظر ويضحك ويفرح ويحب ويكره ويبغض ويسخط ويرحم ويعفو ويغفر
ويعطي ويمنع ، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء { وهو معهم أينما
كانوا } .
قال نعيم بن حماد لما سئل عن معنى هذه الآية : { وهو معكم أينما كنتم } :
معناها أنه لا يخفى عليه خافية بعلمه ، وليس معناه أنه مختلط بالخلق ، فإن
هذا لا توجيه اللغة ، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها ، وخلاف ما
فطر الله عليه الخلق ، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقه وهو موضوع
في السماء ، وهو مع المسافر والمقيم أينما كان ، فهو سبحانه فوق العرش
رقيب على خلقه مهيمن عليهم ومطلع .
وأخبر أنه : { ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه } ، وأنه : { وهو
القاهر فوق عباده } ، وأن الملائكة يخافونه من فوقهم ، وهذا المعنى حق على
حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة ، وقال : { فإني
قريب } ، وقال : { ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } ،
وقال : ( إن الذين تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) ، وقال : { ما
يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك
ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا } .
فكل ما في الكتاب والسنة من الأدلة الدالة على قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر
من علوه وفوقيته ، فإنه سبحانه علي في دنوه وقريب في علوه ، والأحاديث
الواردة في ذلك كثيرة جدا ، وذكرنا بعضها في " الانتقاد الرجيح " وفي "
الصحاح والسنن " ، جميعا .
وقد أشار النبي في أعظم مجامعه في حجة الوداع وفي آخر عمره إلى السماء ، يقول باصبعه : ( اللهم اشهد ) .
وفي الصحيحين قصة المعراج ، وهي متواترة ، وفيه أعظم دلالة على علوه تعالى فوق سبع سموات .
وسؤال السائل : كيف استوى ؟ وكيف نزل ؟ ، بدعة .
قال ابن قتيبة : ( ما زالت الأمم عربهم وعجمهم في جاهليتها وإسلامها معترفة بأن الله في السماء ) .
وقد جمع طائفة من العلماء في هذا الباب مصنفات منها :
كتاب " العلو " للذهبي .
وكتاب " النزول " لشيخ الإسلام ابن تيمية .
وكتاب " الاستواء " لابن القيم ، و " النونية " له .
و " عقيدة ابن قدامة "ورسالة الشيخ محمد بن ناصر الحازمي .
ورسالة الشيخ محمد فاخر الإله آبادي ثم المكي .
ورسالة " إجراء الصفات على ظاهرها " للشوكاني .
و " الإنتقاد الرجيح " للعبد الفقير ، و " الإحتواء " له عفا الله عنه .
إلى غير ذلك . . .
وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا عن أحد من السلف لا من الصحابة ولا من
التابعين ولا عن أئمة الدين حرف واحد يخالف ذلك ، ولم يقل أحد منهم إن
الله ليس في السماء ، أو أنه ليس على العرش ، أو أنه في كل مكان ، وأنه لا
داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل ، وأنه لا تجوز إليه الإشارة
الحسية إليه بالأصابع ، ونحو هذا .
ومن ظن أن نصوص الصفات لا يعقل معناها ، ولا يدرى ما أراد الله تعالى
ورسوله منها ، وظاهرها تشبيه وتمثيل ، واعتقاد ظاهرها كفر وضلال ، وإنما هي
ألفاظ لا معاني لها ، وإن لها تأويلا وتوجيها لا يعلمه إلا الله ، وأنها
بمنزلة { آلم } و { كهيعص } ، وظن أن هذه طريقة السلف ولم يكونوا يعرفون
حقيقة قوله { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة } ، وقوله { ما منعك أن تسجد
لما خلقت بيدي } ، وقوله { الرحمن على العرش استوى } ، ونحو ذلك ، فهذا
الظان من أجهل الناس بعقيدة السلف وأضلهم عن الهدى ، وقد تضمن هذا الظن
استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة وكبار الذين
كانوا أعلم الأمة علما وأفقههم فهما وأحسنهم عملا وأتبعهم سننا ، ولازم
هذا الظن أن الرسول كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه ، وهو خطأ عظيم وجسارة
قبيحة ، نعوذ بالله منها .
فــصــل
وأما قوله تعالى : { يد الله فوق أيديهم }، فاعلم أن لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع :
مفردة كهذه الآية ، كقوله : { بيده الملك } .
ومثنى ، كقوله : { بل يداه مبسوطتان } ، وقوله : { لما خلقت بيدي } .
ومجموع كقوله : { عملت أيدينا } .
فحيث ذكر اليد مثناة أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الأفراد وعدى الفعل بالباء
فلا يحتمل المجاز ، وأما إذا أضيف إليه الفعل ثم عدى بالباء فهو باشرها
بيده ، ولهذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص : ( لم يخلق الله بيده إلا
ثلاثا ؛ خلق آدم بيده وغرس جنة الفردوس بيده وكتب التوراة بيده ) ، وروي
ذلك مرفوعا .
فلو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها اختصاص بذلك ، ولا كانت لأدم فضيلة بذلك على شيء مما خلق بالقدرة .
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الموقف يأتون لآدم فيقولون "
خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه واسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء " ،
فذكر أربعة أشياء كلها خصائص .
وكذلك قال آدم لموسى في محاجته له : ( واصطفاك الله بكلامه ، وخط لك الألواح بيده ) ، وفي لفظ آخر ( كتب لك التوراة بيده ) .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( يقبض الله السموات بيده والأرض بيده الأخرى ) .
وعن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( خلق
الله آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج ذرية منه ، فقال خلقت هؤلاء إلى الجنة
وبعمل أهل الجنة يعملون. . . الحديث ) .
وقال نافع سألت ابن أبي مليكه عن يد الله واحدة أم اثنتان ؟ ، فقال : ( بل اثنتان ) .
وقال ابن عمر وابن عباس : ( أول شيء خلقه الله القلم فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين ) .
وفي الباب ما لا يحصى كثرة ، وقد جمع الشيخ محمد بن ناصر الحازمي في رسالته
ما ورد عن الصحابة والتابعين واتباعهم في مسألة ؛ " علو الرب على خلقه
وكونه على العرش فوق سمواته عموما " وما ورد عن الأئمة الأربعة المجتهدين
خصوصا وعن أئمة الحديث وعلماء الشافعية والحنفية الأربعة والأشاعرة
والمالكية والمفسرين وغيرهم ليس ذكرها ههنا بالتمام من مرادنا فنؤمن بذلك
ونثبت الصفة من غير تحديد ولا تشبيه وإن نبأت عنها أسماع بعض الجاهلين
المقصرين واستوحشت منها نفوس المتكلمين المعطلين.
ومما صح به النقل من الصفات الوجه قال تعالى : { كل شي هالك إلا وجهه ) ومن
الباب آيات وأحاديث منها ( إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة )
وحديث النزول رواه علي بن أبي طالب وابن مسعود وجبير بن مطعم وجابر بن عبد
الله وأبو سعيد الخدري وخلق سواهم ومن قال يخلو العرش عند النزول أو لا
يخلو فقد أتى بقول مبتدع ورأى مخترع وكل ما وصف به الرسول ربه من الأحاديث
الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان به كقوله ( لله أشد
فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته ) متفق عليه وقوله تعالى إلى رجلين يقتل
أحدهما الآخر فيدخلا الجنة رواه الشيخان وقوله حتى يضع رب العزة فيها قدمه .
متفق عليه . وقوله ( فينادى بصوت ) رواه البخاري ومسلم وقوله فلا يبصق قبل
وجهه فإن الله قبل وجهه . متفق عليه . إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر
فيها رسول الله عن ربه فيما يخبر به فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة
يؤمنون به من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل وهؤلاء هم الوسط في
فرقة الأمة كما أن الأمة المرحومة هي الوسط في الأمم فهم وسط الأمة في باب
الصفات بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة .
كما أنهم وسط في باب أفعاله تعالى ؛ بين الحرورية والقدرية .
وفي باب أسماء الإيمان والدين ؛ بين المعتزلة والمرجئة .
وفي أصحاب رسول الله ؛ بين الرافضة والخوارج .
فــصــل
ومما نطق بها القرآن وصح بها النقل من الصفات ؛ النفس :
قال تعالى : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك }.
وقال تعالى : { كتب على نفسه الرحمة }.
وقال تعالى : { اصطنعتك لنفسي }.
وقال رسول الله : ( يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين
يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي فإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ
خيرا منهم ) ، إلى غير ذلك من الأدلة ، و ( قلوب العباد بين إصبعين من
أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ويوعيها ما أراد ).
وأن الله تعالى يجيء يوم القيامة ، كما قال : { وجاء ربك والملك صفا صفا }.
وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء ، كما قال : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }.
ومن صفاته سبحانه ؛ اليد واليمين والكف والإصبع والشمال والقدم والرجل
والوجه والنفس والعين والنزول والإتيان والمجئ والكلام والقول والساق
والحقو والجنب والفوق والاستواء والقوة والقرب والبعد والضحك والتعجب والحب
والكره والمقت والرضا والغضب والسخط والعلم والحياة والقدرة والإرادة
والمشيئة والفوق والمعية والفرح. . . إلى غير ذلك مما نطق به الكتاب والسنة
، فأدلة ذلك مذكورة فيها .
فكل هذه الصفات تساق مساقا واحدا ، ويجب الإيمان بها على أنها صفات حقيقية
لا تشبه صفات المخلوقين ، ولا يمثل ولا يعطل ولا يرد ولا يجحد ولا يأول
بتأويل يخالف ظاهره .
فــصــل
ومن مذهب أهل الحق ، ومما اتفق عليه أهل التوحيد والصدق :
أن الله لم يزل متكلما بكلام مسموع مفهوم مكتوب ، قال تعالى : { وكلم الله موسى تكليما } .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما منكم من أحد إلا يكلمه الله يوم
القيامة ليس بينه وبينه ترجمان . . . الحديث ) ، رواه عدي بن حاتم عنه .
وروى جابر بن عبد الله ، قال : لما قتل عبد الله - يعني إباه - قال رسول
الله : ( يا جابر ألا أخبرك بما قال الله لأبيك ) ، قال : بلى ؟! ، قال : (
ما كلم أحدا إلا من وراء حجاب ، وكلم أباك كفاحا . . . الحديث ) .
والقرآن كلام الله عز وجل ووحيه وتنزيله ، والمسموع من القارئ كلام الله عز
وجل ، قال الله تعالى : { حتى يسمع كلام الله } ، وإنما سمعه من القاري ،
وقال عز وجل : { يريدون أن يبدلوا كلام الله } ، وقال : { إنا نحن نزلنا
الذكر وإنا له لحافظون } ، وقال : { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح
الأمين على قلبك } .
وهو محفوظ في الصدور ، كما قال { بل هو أيات بينات في صدور الذين أوتوا
العلم } ، وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله : ( واستذكروا القرآن فهو أشد
تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقله ) .
وهو مكتوب في المصاحف ، منظور بالأعين ، قال تعالى : { وكتاب مسطور في رق
منشور } ، وقال : { وإنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون } ،
وعن ابن عمر رضي الله عنهما : ( نهى رسول الله أن يسافر بالقرآن إلى أرض
العدو ، مخافة أن يناله العدو ) ، وقال عثمان بن عفان : ( ما أحب أن يأتي
علي يوم وليلة حتى أنظر في كلام الله ) ، يعني القراءة في المصحف ، وقال
عبد الله بن أبي مليكة ، وكان عكرمة بن أبي جهل يأخذ المصحف ويقول : ( كلام
ربي ) .
وأجمع أئمة السلف المقتدى بهم من الخلف على أنه غير مخلوق ، وقال علي بن
أبي طالب : ( القرآن ليس بمخلوق ولكنه كلام الله ، منه بدء وإليه يعود ) ،
وروي نحوه عن ابن مسعود وابن عباس وعمرو بن دينار وسفيان بن عيينة .
وأن الله تكلم به حقيقة ، وأن هذا القرآن الذي أنزل على محمد هو كلام الله
حقيقة لا كلام غيره ، ولا يجوز إطلاق بأنه " حكاية " عن كلام الله ، أو "
عبارة " عنه ، بل إذا قرأه الناس ، أو كتبوه بالمصاحف لم يخرج بذلك أن يكون
كلام الله سبحانه حقيقة ، فإن الكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدئا لا إلى
من قاله مبلغا مؤديا .
فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر ، ومن زعم أنه كلام الله ووقف ولم
يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من القول الأول ، ومن زعم أن ألفاظنا وتلاوتنا له
مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي .
وقد كلم الله موسى عليه السلام تكليما منه إليه ، وناوله التوراة من يده إلى يده ، ولم يزل عز وجل متكلما .
والقرآن كلام الله حروفه ومعانيه ، ليس كلامه الحروف دون المعاني ، ولا المعاني دون الحروف .
واحتج أحمد بن حنبل ؛ بأن الله تعالى كلم موسى ، فكان الكلام من الله
والاستماع من موسى ، وبقوله عز وجل { ولكن حق القول في . . . الآية } ،
وروى الترمذي عن خباب بن الأرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنكم
لن تتقربوا إلى الله عز وجل بأفضل مما خرج يعني القرآن ) .
فــصــل
ونعتقد أن الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة عين كلام الله عز وجل ، قال
تعالى : { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } ، وقال : { المص } و { آلر } و {
آلم } و { كهيعص } و { حم عسق } ، فمن لم يقل إن هذه الأحرف كلام الله عز
وجل ، فقد مرق من الدين وخرج عن جملة المسلمين ، ومن أنكر أن تكون حروفا
فقد كابر العيان وأتى بالبهتان .
وعن ابن مسعود : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ حرفا من كتاب
الله عز وجل فله عشر حسنات ) [رواه الترمذي وصححه ورواه غيره من الأئمة] ،
وفيه : ( أما إني لا أقول " الم " حرف ، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف )
.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : ( كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه
وسلم مفسرة ، حرفا حرفا ) [رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه عن يعلى
بن مملك].
وعن سهل بن سعد الساعدي قال : بينا نحن نقرأ إذ خرج علينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال : ( كتاب الله واحد وفيكم الأحمر والأسود ، اقرؤا
القرآن قبل أن يأتي أقوام يقرؤن القرآن يقيمون حروفه كما يقام السهم لا
يجاوز تراقيهم يتعجلون أجره ولا يتأجلونه ) [رواه الأجري].
وروى أبو عبيد في فضائل القرآن بإسناده قال : سئل علي رضي الله عنه عن
الجنب يقرؤون القرآن ؟ قال : ( لا ولا حرف ) ، وروى نحوه عن ابن المبارك ،
وزاد ( من قال لا أؤمن بهذه اللام فقد كفر ) ، وقال أيضا : ( من حلف بسورة
البقرة فعليه بكل حرف منها يمين ) .
وقال طلحة بن مصرف : قرآ رجل على معاذ بن جبل القرآن فترك واوا ، فقال : ( لقد تركت حرفا أعظم من أحد ) .
وقال الحسن البصري : ( قال الله تعالى { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا
آياته } وما تدبر آياته إلا أتباعه ، أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة
حدوده ، حتى أن أحدهم ليقول لقد قرأت القرآن كله فما اسقطت منه حرفا وقد
أسقطه والله كله ) .
فــصــل
وأما الصوت ؛ فقد ورد في رواية عبد الله بن أنيس مرفوعا في حديث الحشر (
فيناديهم سبحانه بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ) [رواه أحمد وجماعة
من الأئمة واستشهد به البخاري].
وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا تكلم الله بالوحي
سمع صوته أهل السماء كسلسلة على صفوان فيخرون سجدا . . . الحديث ).
وقول القائل ؛ إن الحروف والأصوات لا تكون إلا من مخارج ! باطل ومحال ، قال
تعالى : { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد } ، وكذا قوله
إخبارا عن السماء والأرض أنهما قالتا : {
أتينا طائعين } فجعل القول لا من مخارج ولا أدوات ، وروي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه كلمته الذراع المسمومة ، وأنه سلم عليه الحجر ، وسلمت عليه
الشجرة .
وبالجملة فالقرآن العظيم هو كتابه المبين وحبله المتين أنزله على سيد المرسلين بلسان عربي مبين .
وهو سور وآيات وأصوات وحروف وكلمات ، له أول وآخر ، متلو بالألسنة محفوظ في
الصدور مكتوب في المصاحف مسموع بالآذان ، قال تعالى : { بل هو آيات بينات
في صدور الذين أوتوا العلم } ، وقال تعالى : { لو كان البحر مدادا لكلمات
ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي } ، وقال تعالى : { وإنه لقرآن كريم
في كتاب مكنون } .
والقرآن ؛ هو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه : { وقال الذين كفروا لن نؤمن
بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه } ، وقال بعضهم فيه : { إن هذا إلا قول
البشر } فتوعده الله بإصلاه سقر ، وقال بعضهم ( هو شعر ) ، فقال تعالى : {
وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } ، فلما نفى
سبحانه عنه الشعر وأثبته قرآنا لم تبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا
الكتاب العربي ، الذي علم أوله وآخره .
فمن زعم أن القرآن اسم لغيره دونه بأن جهلة وحمقه ، قال تعالى : { وإن كنتم
في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } ، وقال تعالى : { لئن
اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان
بعضهم لبعض ظهيرا } ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يدرى ما هو
ولا يعقل معناه .
فــصــل
والله سبحانه خالق لجميع المخلوقات ، عالم بجميع المعلومات من الجزيئات
والكليات ، قادر على جميع الممكنات ، وعلى أن يخلق مثلهم ، وهو الخلاق
العليم ، مريد لجميع الكائنات ، سميع بصير لا شبه له ولا مثل ولا ضد ولا ند
، ولا شريك له في وجوب الوجود ولا في استحقاق العبادة ولا في الخلق والأمر
والتدبير ، ولا يشفي مريضا ولا يرزق مرزوقا ولا يكشف ضرا إلا هو ، ولا يحل
في غيره ولا يحل غيره فيه ، ولا يتحد غيره به ، ولا يقوم حادث بذاته ،
ولافي ذاته حدوث ، وانما الحدوث تتعلق في تعلق الصفات بمتعلقاتها ، بريء عن
التجدد والحدوث من جميع الوجوه ، ولا يصح عليه الجهل ولا الكذب ، وهو فرق
العرش كما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ، ولا يحتاج إلى شيء في ذاته وصفاته ،
ولا حاكم عليه ، ولا حكم إلا له ، ولا يجب عليه شيء بإيجاب غيره ، وهو لا
يخلف الميعاد ، وجميع أفعاله تتضمن الحكمة ، ولا قبيح منه ، ولا ينسب في
فعله إلى جور وظلم ، وليس للعقل حكم في حسن الأشياء وقبحها ، وله الأسماء
الحسنى والمثل الأعلى ، ولا حاكم سواه ، ولا معبود إلا إياه .
فــصــل
والإيمان ؛ قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح ، مطابقا للكتاب
والسنة والنية ، لقوله ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) .
والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، قال الله تعالى : { فأما الذين
آمنوا فزادتهم إيمانا } ، وقال تعالى : { ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } ،
وقال تعالى : { ويزداد الذين أمنوا إيمانا } .
وفي الحديث ( الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها لا إله إلا الله وأدناها
إماطة الأذى عن الطريق ) ، فجعل القول والعمل جميعا من الإيمان .
ومع ذلك لا يكفر أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر ، كما قالت الخوارج ،
بل الأخوة الإيمانية باقية مع المعاصي ، كما قال تعالى في آية القصاص : {
فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء بإحسان } ، وقال تعالى : {
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على
الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما
بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين
أخويكم } .
ولا يسلب من الفاسق إسم الإيمان المطلق بالكلية .
ولا يخلد في النار كما قالت المعتزلة .
بل للفاسق الملي اسم الإيمان ، كما في قوله تعالى : { فتحرير رقبة مؤمنة }
وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق ـ كما في قوله تعالى : { إنما المؤمنون
الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } ، وقوله ( لا يزني الزاني حين يزني وهو
مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو
مؤمن ) ، ونحو ذلك ، فهو مؤمن ناقص الإيمان ، أو مؤمن بالإيمان فاسق
بالكبيرة ، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم .
فلا يشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها .
ولا نخرجه عن الإسلام بعمل ، إلا أن يكون ذلك في حديث ، كما جاء وكما روي
فيصدقه ويقبله ويعلم أنه كما روي ، نحو ترك الصلاة وشرب الخمر وما أشبه ذلك
، أو يبتدع بدعه ينسب صاحبها إلى الكفر والخروج من الإسلام ، فيتبع ذلك
ولا يجاوزه .
فــصــل
والإيمان هو الإسلام ، قال الله تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا }.
وعن ابن عمر ، قال : سمعت رسول الله يقول : ( بني الإسلام على خمس شهادة أن
لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم
رمضان وحج البيت ) ، فهذا حقيقة الإسلام .
وأما الإيمان :
فعن عمر بن الخطاب أن جبريل عليه السلام ، قال للنبي ؛ ما الإيمان ؟ قال : (
أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره
من الله ) ، قال : فإذا فعلت ذلك فقد آمنت ؟ ، قال : ( نعم ) [أخرجه مسلم
وأبو داود وغيرهما] ، وفيه من الأدلة لو استقصينا لأدى إلى الإملال .
وفي حديث سعد بن أبي وقاص : ( إني لاراه مؤمنا ) ، فقال رسول الله : ( أو مسلما ) ، فذكر ثلاثة وأجابه بمثل ذلك .
قال الزهري : ( فروي الإسلام الكلمة والإيمان والعمل الصالح ) .
قلت : فعلى هذا قد يخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام ، ولا يخرج من الإسلام إلا إلى الكفر بالله تعالى وتبارك ، أعاذنا الله منه .
فــصــل
ويجب الإيمان بالقدر خيره وشره وحلوه ومره وقليله وكثيره أنه من الله تعالى
، ليس في العالم شيء يخرج عن تقديره ولا يصدر شيء إلا عن تدبيره وقضائه ،
ولا محيد لأحد عن القدر المقدور ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المحفوظ ، لا
خير ولا شر إلا بمشيئته ، خلق من شاء للسعادة واستعمله بها فضلا وخلق من
أراد للشقاوة واستعمله بها عدلا ، فهو سر استأثر الله تعالى به وحجبه عن
خلقه { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } ، قال الله تعالى : { ولقد ذرأنا
لجنهم كثيرا من الجن والإنس } ، وقال تعالى : { ولو شئنا لآتينا كل نفس
هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } ، وقال : {
إنا كل شيء خلقناه بقدر } ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اعملو
فكل ميسر لما خلق له ) .
خلق الخلائق وأفعالهم وقدر أرزاقهم وآجالهم ، يهدي من يشاء برحمته ويضل من
يشاء بحكمته ، قال تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن
يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء } ، وقال تعالى : {
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن
ذلك على الله يسير } .
ولا يجوز أن يجعل قدر الله تعالى وقضاؤه حجة بعد الرسل ، ونعلم أن لله
الحجة علينا بإنزال الكتب وبعثه الرسل ، وما أمر الله تعالى ونهى إلا
لمستطيع الفعل والترك ، ولم يجبر أحدا على معصية ولا اضطره على ترك الطاعة ،
قال تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ، وقال تعالى : { فاتقوا
الله ما استطتعم } ، وقال : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم } ،
فدل على أن للعبد كسبا يجزى على حسنته بالثواب وعلى سيئته بالعقاب وهو
واقع بقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى .
والإيمان بالقدر على درجتين ، كل درجة تتضمن شيئين ؛
الأولى : الإيمان بأن الله عليم بما يعمل الخلق بعلمه القديم الذي هو موصوف
به ، وقد علم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال ، ثم كتب
في اللوح المحفوظ مقادير الخلق ، وأول ما خلق الله القلم ، وقال له ؛ اكتب
ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهذا التقدير تابع لعلمه سبحانه ، يكون في
مواضع جملة وتفصيلا ، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء ، وإذا خلق الجنين
قبل خلق الروح فيه بعث إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات فيقال ؛ اكتب رزقه
وأجله وعمله شقي أم سعيد ونحو ذلك ، فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية
قديما ومنكره اليوم قليل .
أما الثانية : فهو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة ، وهو الإيمان بأن ما
شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا
بمشيئة الله سبحانه ، لا يكون في ملكه ما لا يريد ، وأنه سبحانه على كل شيء
قدير من الموجودات والمعدومات ، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا
الله خالقه سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه ، ومع ذلك فقد أمر العباد
بطاعته وطاعة رسوله ونهاهم عن معصيته ومعصية رسوله وهو سبحانه يحب المتقين
والمحسنين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ـ ولا يحب
الكافرين ولا يرضى عن القوم الفاسقين ، ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده
الكفر ولا يحب الفساد .
والعباد فاعلون حقيقة ، والله خالق أفعالهم ، والعبد هو المؤمن والكافر
والبر والفاجر والمصلي والصائم ، وللعباد قدرة على أفعالهم ولهم إرادة ،
والله خالقهم وخالق قدرتهم وارادتهم ، وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة
القدرية الذي سماهم النبي " مجوس هذه الأمة " ، يغلوا فيها قوم من أهل
الإثبات حتى يسلبوا العبد قدرته واختياره ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه
وحكمها ومصالحها ، فالقدر ظاهره وباطنه ومحبوبه ومكروهه وحسنه وسيئه وقله
وكثره وأوله وآخره من الله عز وجل ، قضاء قضاه على عباده ، وقدر قدره عليهم
، لا يعد واحد منهم مشيئة الله ولا يجاوز قضاه بل كلهم صائرون إلى ما
خلقهم له واقعون فيما قدر عليهم ، وهو عدل منه جل ربنا وعز .
والزنا والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك والكفر
والبدعة والمعاصي والكبائر والصغائر كلها بقضاء الله وقدر منه من غير أن
يكون لأحد من الخلق حجة على الله .
وعلم الله عز وجل ماض في خلقه بمشيئة منه ، وقد علم من ابليس وغيره ممن
عصاه من لدن عصي إلى أن تقوم الساعة المعصية وخلفقهم لها ، وعلم الطاعة من
أهل الطاعة وخلقهم لها ، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم وأن ما أصابهم لم
يكن ليخطئهم .
ومن زعم أن الله سبحانه شاء لعباده الذين عصوه الخير والطاعة وأن العباد
شاءوا لأنفسهم الشر والمعصية فعملوا على مشيئتهم ، فقد زعم أن مشيئة العباد
أغلب من مشئية الله ، وأي أفتراء على الله أكبر من هذا ، ومن زعم أن الزنا
ليس بقدر ، قيل له أريت هذه المرأة حملت من الزنا وجاءت بولد ، هل شاء
الله تعالى عز وجل أن يخلق هذا الولد ؟ وهل مضى في سابق علمه ؟ ، فإن قال ؛
لا ! فقد زعم أن مع الله خالقا آخر وهذا هو الشرك صراحا ، ومن زعم أن
السرقة وشرب الخمر وأكل مال الحرام ليس بقضاء وقدر ، فقد زعم أن هذا
الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره ، وهذا صراح قول المجوسية ، بل أكل رزقه
الذي قضى الله له أن يأكله من الوجه الذي أكله ، ومن زعم أن قتل النفس ليس
بقدر الله ، فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله ، وأي كفر أوضح من هذا ، بل
ذلك بقضاء الله عز وجل ، و ذلك عدل منه في خلقه وتدبيره فيهم وما جرى من
سابق علمه فيهم ، وهو العدل الحق الذي يفعل ما يشاء .
ومن أقر بالعلم لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة على الصغر والقمأ ، فالأشياء
كلها تكون بمشيئة الله تعالى كما قال سبحانه : { وما تشاؤن إلا أن يشاء
الله } ، وكما قال المسلمون ؛ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وقالوا ؛
إن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله ، أو يكون أحد يقدر أن يخرج
عن علمه تعالى ، أو أن يفعل شيئا علم الله أنه لا يفعله ، وأقروا أنه لا
خالق إلا الله ، وأن أعمال العباد خلقها الله ، وأن العباد لا يقدرون أن
يخلقوا شيئا ، وأن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين ، ولطف
للمؤمنين ونظر لهم وأصلحهم وهداهم ولم يلطف للكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم ،
ولو أصلحهم لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين ، وأن الله يقدر أن
يصلح الكافرين ويلطف لهم حتى يكونوا مؤمنين ، كما قال تعالى : { فلو شاء
لهداكم أجمعين } ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم وخذلهم واضلهم وطبع
على قلوبهم وختم على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ، ويؤمنون أنهم : { لا
يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله } كما قال ، ويلجئون أمرهم
إلى الله ويثبتون الحاجة إليه سبحانه في كل وقت ، والفقر إليه في كل حال .
فــصــل
ونعتقد أن محمدا المصطفى ، وأحمد المجتبى ؛ خير الخلائق وأفضلهم وأكرمهم
على الله عز وجل وأعلى درجة وأقربهم إلى الله وسيلة ، بعثه الله رحمة
للعالمين وخصه بالشفاعة في الخلق أجمعين .
عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال : ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من
الأنبياء قبلي نصرت بالرعب ميسر شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل
من أمتي ادركته الصلوة فليصل وحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت
الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة وقال أنا سيد
يوم القيامة وقال أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أول من ينشق عنه القبر وأنا
أول شافع ومشفع ) [رواه مسلم والنسائي] ، وعن أنس بن مالك قال رسول الله :
( آتي يوم القيامة باب الجنة فأستفتح ، فيقول ؛ الخازن من أنت ؟ فأقول ؛
محمد ، فيقول ؛ بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك ) [رواه مسلم] ، إلى غير ذلك
من الخصائص والفضائل .
قلت : له في القيامة ثلاث شفاعات :
أما الشفاعة الأولى : فيشفع في أهل الموقف حتى يقضي بينهم ، بعد أن يتراجع
الأنبياء آدم ونوح وابراهيم وموسى وعيسى الشفاعة حتى تنتهي إليه .
والثانية : أن يشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة .
وهاتان الشفاعتان خاصتان به .
والثالثة : يشفع فيمن يستحق النار ، فيشفع في قوم فلا يصيرون إلى النار ،
وهذه الشفاعة له ولسائر المؤمنين والصديقين والشهداء وغيرهم من الملائكة {
ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } ، ولا ينفع الكافرين شفاعة
الشافعين ، ويخلد قوم فيها أبدا وهم أهل الشرك والتكذيب والجحود والكفر
بالله عز وجل ، ويشفع فيمن دخلها ؛ أن يخرج فيخرجون بشفاعته ، بعدما
احترقوا وصاروا فحما وحمما .
ويخرج الله من النار قوما بغير شفاعة بفضله ورحمته الواسعة ، ويبقى في
الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا فينشئ الله لها أقواما فيدخلهم الجنة .
وتكون الشفاعة بالإذن ، لمن أذن له الرحمن وقال صوابا ، وقد نص القرآن
الكريم عن ذلك في مواطن منها قوله سبحانه وتعالى : { من ذا الذي يشفع عنده
إلا بإذنه } ، والشفعاء كلهم داخلون تحت هذا الاذن ، ولا يشفع أحد بغير
إذنه تعالى .
فــصــل
ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم لأصحاب رسول الله كما وصفهم الله
به في قوله تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا
ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا
إنك رؤوف رحيم } ، وطاعة قوله ( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن
أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) ، ويقبلون ما جاء به
الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم ، ويفضلون من أنفق قبل الفتح -
وهو صلح الحديبية - على من أنفق بعد وقاتل ، ويقدمون المهاجرين على
الأنصار ، ويؤمنون بأن الله تعالى قال لأهل بدر - وكانوا ثلاث مائة وبضعة
عشر - ( إعملوا ما شئتم قد غفرت لكم ) ، وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت
الشجرة ، كما أخبر به النبي ، ورضي الله عنهم ورضوا عنه .
ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله ، كالعشرة المبشرة وثابت بن قيس وغيرهم من الصحابة وأهل البيت .
ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وغيره ، من أن خير هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها صاحبه الأخص وأخوه في
الإسلام ورفيقه في الهجرة والغار ووزيره في حياته وخليفته بعد وفاته أبو
بكر عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة الصديق رضي الله عنه ، ثم من أعز به
الإسلام وأظهر الدين عمر بن الخطاب الفاروق ، ويثلثون بعثمان ذي النور
عثمان بن عفان الذي جمع القرآن والحياء والعدل والإحسان ، ويربعون بابن عم
النبي وختنه علي بن أبي طالب عليه السلام ، كما دلت عليه الآثار .
مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي - بعد اتفاقهم على أبي
بكر وعمر - أيهما أفضل ؟ فقدم قوم عثمان وسكتوا وربعوا بعلي ، وقدم قوم
عليا ، وقوم توقفوا ، ولكن استقر أمر أهل السنة والجماعة على تقديم عثمان
على علي ، وإن كانت مسألة علي وعثمان ليست من الأصول التي يضلل المخالف
فيها عند جمهور أهل السنة ، لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة ، وذلك أنهم
يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، قال
عبد الله بن عمر : ( كنا نقول والنبي حي أبو بكر ثم عثمان ، فيبلغ ذلك
النبي فلا ينكره ) ، وصحت الرواية عن علي رضي الله عنه أنه قال : ( خير هذه
الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ولو شئت لسميت الثالث ) .
وأحقهم بالخلافة بعد النبي ؛ أبو بكر لفضله وسابقته وتقديم النبي له في
الصلوات على جميع أصحابه وإجماع الصحابة على تقديمه ومتابعته - ولم يكن
الله ليجمعهم على ضلالة - ثم بعده عمر لفضله وعهد أبي بكر إليه ، ثم عثمان
لتقديم أهل الشورى له ، ثم علي رضي الله عنه لإجماع أهل عصره عليه ، فهؤلاء
الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون ، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو
أضل من حمار أهله ، وقد قال رسول الله : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجد ) ، وقال ( الخلافة بعدي
ثلاثون سنة ) فكان آخرهم خلافة علي رضي الله عنه .
فــصــل
ويحبون أهل بيت رسول الله ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله ، حيث قال
يوم غدير خم : ( أذكركم الله في أهل بيتي ) ، مرتين ، وقال للعباس عمه حين
اشتكى أن بعض قريش لا يلقونه بوجه طلق ( والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى
يحبوكم لله ولقرابتي ) .
ويؤمنون بأن أزواج النبي أمهات المؤمنين بنص القرآن وأنهن أزواجه في الآخرة
، خصوصا خديجة وهي أم أكثر أولاده وأول من آمن به من النساء وعاضدته على
أمره وكان لها منه المنزلة العلية ، والصديقة بنت الصديق التي قال فيها
النبي : ( فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) ، وقد برأها
الله سبحانه في كتابه وهي زوجته في الدنيا والآخرة ، فمن قذفها بما برأها
الله منه فقد كفر بالله العظيم وكذب بكتابه الحكيم .
ويتبرؤن من طريقة الروافض والشيعة الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم ، وطريقة النواصب والخوارج الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل .
ويمسكون عما شجر بين الصحابة بينهم ، ويقولون إن هذه الآثار المروية منها
ما هو كذب ومنها ما هو قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه والصحيح منها هم فيه
معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون ، وهم مع ذلك يعتقدون أن
كل أحد من الصحابة ليس معصوما عن كبائر الإثم وصغائره ، بل تجوز عليهم
الذنوب في الجملة ، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما صدر منهم -
إن صدر - حتى أنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم ، ولهم من
الحسنات التي تمحوا سيئات ما ليس لمن بعدهم ، وكلهم عدول بتعديل رسول الله ،
وقد ثبت في قوله أنهم خير القرون ، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان
أفضل من جبل أحد ذهبا من بعدهم ، ثم إذا كان قد صدر عن أحد منهم ذنب فيكون
قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد -
الذين هم أحق الناس بشفاعته - أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه ، فإذا
كان هذا في الذنوب المحققه فكيف في الأمور التي كانوا مجتهدين إن أصابوا
فلهم أجران وإن أخطأؤا فلهم أجر واحد ، والخطأ مغفور ، ثم القدر الذي ينكر
من فعل بعضهم قليل ، فوزره مغفور في جنب فضائلهم ومحاسنهم من الإيمان بالله
ورسوله والجهاد في سبيله بالأنفس والأموال والنصرة والعلم النافع والعمل
الصالح والنصيحة لخلق الله ، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من
الله به عليهم من الفضائل والكرامات ورفيع الدرجات في الدنيا والآخرة علم
يقينا وعيانا بلا ريب ومرية أنهم خير الخلق بعد الأنبياء ، لم يكن ولا يكون
مثلهم أبدا ، وأنهم الصفوة من هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على
الله .
وبالجملة فكل من شهد له منهم رسول الله بالجنة شهدنا له ، ولا نشهد لأحد
غيرهم ، بل نرجو للمحسن ونخاف على المسيء ، ونكل علم الخلق إلى خالقه ، ولا
يحكمون بالجنة لأحد بعينه من الموحدين حتى يكون الله تعالى ينزلهم حيث شاء
، ويقولون أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم على المعاصي وإن شاء غفر لهم .
ويؤمنون بأن الله تعالى يخرج قوما من الموحدين من النار - على ما جاءت به
الروايات عن رسول الله - فالزم رحمك الله ما ذكرت لك من كتاب ربك العظيم
وسنة نبيك الرؤوف الرحيم ، ولا تحذ عنه بقول أحد وعمله ، ولا تبتغي الهدى
من غيره ولا تغتر بزخارف المبطلين وانتحالهم واراء المتكلمين وتأويلهم ، إن
الرشد والهدى والفوز والرضا فيما جاء من عند الله ورسوله لا فيما أحدثه
المحدثون وأتى به المتنطعون من آرائهم المضمحلة وعقولهم الفاسدة ، وارض
بكتاب الله وسنة رسوله بدلا من قول كل قائل وزخرف باطل .
ومن أصول السنة : التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من
خوارق وعادات في أنواع العلوم والمكاشفات والتأثيرات ، كالمأثور عن سلف
الأمة وأئمتها وسالف الأمم في سورة الكهف وسورة مريم وغيرها ، وعن صدر هذه
الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة ، وهي موجودة فيها إلى يوم
القيامة .
والكشف والكرامة ليس بحجة في أحكام الشريعة المطهرة ، وخاصة فيما يخالف
ظاهر الكتاب والسنة ، ولا يمتاز صاحب الولاية والكرامة عن آحاد المسلمين في
شيء من الزي والعمل والقول ولا يختص بالنذر وغيره مما ينبغي لله سبحانه .
قال محمد ابن ناصر الحازمي : ( الذي يحب للأولياء المتبعين لا المبتدعين ،
هو المحبة والتوقير والتعظيم والإتباع والدعاء والاستغفار والإقتفاء بهم في
محاسن الأقوال والأفعال بما اقتضى الكتاب والسنة .
وإثبات الكرامة اللازمة كما وقع لبعض الصحابة والتابعين لهم باحسان ، ولا
يتجاوز بهم إلى حد المعجزات النبوية ولا الخوارق الإلهية ، حتى يعرف الفرق
بين الحق والخلق ، والمعصوم وغير المعصوم.
وتعريف المعجزة ؛ هي أمر خارق للعادة داع إلى الخير والسعادة ، مقرون بدعوى
النبوة ، قصد به اظهار صدق من ادعى أنه رسول من الله سبحانه .
وتعريف الكرامة ؛ بأنها ظهور أمر خارق للعادة من قبل شخص ، غير مقارن لدعوى
النبوة ، فما لا يكون مقرونا بالإيمان والعمل الصالح يكون استدراجا ، وما
كان مقرونا بدعواها يكون معجزة .
وأما اثبات التصرف في العالم للأولياء وسقوط التكليف عنهم وإثبات ما يختص
بالله ، فإسقاط لحق الربوبية والألوهية ، ودعوى مجردة عن الدليل ، بل من
العقائد الفاسدة الضعيفة والأباطيل الشركية السخيفة ، والاستدلال بأمثال
قوله تعالى { لهم ما يشاءون } حجة فاسدة ، فإن ذلك وعد لهم ، والله لا يخلف
الميعاد ، وهذا لهم في الآخرة كما صرحت به الآيات والأحاديث ، ودعوى
العموم بعيدة محالة ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن والله المستعان
وكفى بالله شهيدا على الضمائر وحكما بين العادل والجائر وغرهم في دينهم ما
كانوا يفترون ما أكثر هذا اليوم في الأحزاب المتحزبة والجموع المجتمعة من
فرق الشيعة والمتصوفة وطوائف المبتدعة يسيرون قواعد لم تتأسس على علم ولا
هدى ولا كتاب منير ثم يبنون عليها قناطير علمهم وعملهم وما لم يشهد له دليل
من الإفتراء والشبهة التي نشأت عن الهوى والألف والتقليد ساقطة في البين
فتبقى الدعوى مجردة وحجج الله سبحانه أكبر وأكثر وفي قوله تعالى : { قل إن
كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ، أوضح دليل على المدعى ، لأن
الخير مقصور على اتباعه ، فيا حسرة الجهلة البطلة الزاعمين بأن اتباعهم لمن
قلدوه ينجيهم من دون اقتصاص واقتصار على الآثار النبوية { ومن يبتغ غير
الإسلام دينا فلن يقبل منه } .
والإسلام ما جاء به خاتم النبيين وسيد المرسلين { ومن يعتصم بالله فقد هدي
إلى صراط مستقيم } ، فمن لم يخص الله بالإعتصام - وهو أغنى الشركاء عن
الشرك - لم يعتصم عن الضلالة ، ومن أخلص لله سلم من الضلالة ، ومثله قوله
تعالى { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما
تذكرون } .
ولقد أربى ضلال المتصوفة واتبعهم الرعاء والجهلة واستحوذ عليهم الشيطان
فأنساهم ذكر الله ، فلا تسمع إلا ؛ يا سيدي أحمد البدوي ويا سيدي الزيلعي
ويا عيدروس ويا جيلاني ، ولا تسمع من يذكر الله ويلجأ إليه في البحر والبر -
إلا قليلا - ولفقوا كذبات لا أصل لها ، وقد عمت جهالاتهم اليوم عامة أهل
وقتنا خاصتهم - إلا ما شاء الله - فيضيفون إليهم من القدرة والعلم
بالمغيبات والتصرف في الكائنات ما يختص بالله سبحانه ، حتى قالوا فلان
يتصرف في العالم ، وكل عبارة أخبث من أختها ، اللهم إنا نبرأ إليك من صنيع
هؤلاء ، ونسألك أن تكتبنا من الناهين لضلالاتهم والمنادين لهم ، ونستغفرك
في التقصير ، وقد علمت عجزنا عن السيف والقنا أن نقضي به إليهم ، وعن
اللسان أن ننصحهم أو ننادي به عليهم ، إلا في الصحف والكتابة والحمد لله
على كل حال ) انتهى .
ومن لواحق البحث الذي قبله ؛ التوسل بهم ، وأصل الوسيلة ما يتوسل به ويتقرب
إلى الشيء ، وحديث " آت محمدا الوسيلة " قيل القرب من الله سبحانه ، وقيل
الشفاعة ، وقيل منزلة من منازل الجنة ، وفي التوسل خلاف ، والحق أن ما صح
عن النبي وجب اتباعه والعمل به ، كحديث الأعمى الذي في السنن وهو حديث حسن
لا موضوع وفيه ( يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي ) ، وحديث رواه أحمد والحاكم
فيه ( بحق السائلين عليك ) ، وأمثال ذلك .
وقال بعضهم يؤخذ من طلب الوضوء على المريض من رسول الله ، بالتماس البركة
فيما لامسه الصالحون ، لتقريره ، وهذا محل توقف ، لأن ذلك بالقياس ، وهو
ممنوع لسد ذرائع العقائد الفاسدة في الخلق ، ولا نعلم أحدا من الصالحين في
رتبته حتى يلحق به ، كما هو مقتضى القياس ، مع الفارق وأما ما لم يصح عن
الله ورسوله فسد الباب هو اللازم حمية لجناب التوحيد ، إذ فتح هذا ذريعة
لاتساع عقائد السوء والخروج عن محض التوحيد المأمور به ، قال تعالى : {
يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } ، والمؤمنون عرفوا الله منزها
عن الأنداد والأضداد ومنعما ورؤوفا ورحيما بالعباد ودودا وكريما ولطيفا
وخالقا ورازقا ، ونحوها من الصفات الكمال ، فأحبوه كما ينبغي له ، ويزداد
هذا بزيادة المعرفة ، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي ومن
الماء والبارد ، والذي يظهر أن الحامل لمن ادعى العلم والعقل على محبة ما
لا ينفع ولا يضر والتوسل به والاعتقاد فيه إتباع من يظن به الخير من أهل
العلم ودرجهم ابليس شيئا فشيئا حتى تعودوا ذلك وألفوه وسوغ لهم ذلك ؛
التقليد ، وعدم النظر في الكتاب والسنة ، ومن نظر بإنصاف فيهما لم يخف عليه
الحق الصراح ، ولهذا لا تسمع عند الشدائد في مدائن الإسلام الاستغاثة
بالله ولا الاستعانة به ولا التوسل به ولا دوام ذكره إلا قليلا ، وإنما
يجيز أكثرهم اللج بالمشايخ والأولياء ، اللهم إنا نبرأ إليك من أمثال تلك
الضلالات والمحدثات ونعوذ بك من جميع ما كره الله .
فــصــل
ومن لواحق ذلك ؛ النذر للأولياء وللقباب والمشاهد والقبور والضرائح ، وقد
ورد في الصحيح عنه النهي عن النذر ، وقال : ( إنه لا يأتي بخير ) ، فقيل ؛
النذر من حيث هو مكروه ، وقيل خلاف الأولى وفيه أساءة الظن به بربه وهذا
يؤكد حمل النهي على التحريم ، والمراد أنه لا يرد القضاء ولا نفع فيه ولا
صرف ضر ولا جلب خير .
والظاهر من الأدلة الصحيحة الصريحة تحريم نذور القباب وغيرهما ، وهذا من
العمل الذي ليس عليه أمره وفي الصحيحين ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو
رد ) ، وهو دال على بطلان العقود الغير المأمور بها وعدم ترتب ثمراتها
عليها - سواء كان عمن جهل أو عرف الحق وتعمد خلافه - فهذه النذور محرمة
باطلة ، وكذلك الأموال التي توقف على الكعبة المشرفة وعلى المسجد النبوي
ينبغي صرفها في مصالح الإسلام وأهله ولا تترك سدى .
ولقد لعن رسول الله من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلى فيها ،
فكيف من اعتقد واتخذ القبر وثنا يضر وينفع ، عنه ( اشتد غضب الله على قوم
اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد ) و ( إن من كان قبلكم إذا مات فيهم الرجل
الصالح بنوا على قبره وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم
القيامة ) [رواه أحمد وابن حبان] ، وعن علي : ( أمرني رسول الله أن لا أدع
تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته ) ، وقد علم بالأدلة الصحيحة
المحكمة أن بناء المشاهد والقباب لا يجوز وأن النذور لها محرم .
فــصــل
والرؤيا من الله تعالى وحي حق ، إذا رأى صاحبها في منامه ما ليس ضغثا فقصها
على عالم وصدق فيها وأولها على أصل تأويلها الصحيح ولم يحرف والرؤيا
تأويلها حق .
وقد كانت الرؤيا من الأنبياء وحيا ، فأي جاهل أجهل ممن يطعن في الرؤيا
ويزعم أنها ليست بشيء ، وبلغني أن من قال هذا القول لا يرى الاغتسال من
الاحتلام ! ، وقد روي عن النبي أنه قال : ( إن رؤيا المؤمن كلام يكلم به
الرب عبده ) ، وقال : ( إن الرؤيا من الله ) ، وفي الباب أحاديث ذكرها في
المشكاة وغيره .
فــصــل
وأجمع القائلون بالأخبار والمؤمنون بالآثار ؛ أن رسول الله أسري به ليلا من
المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بنص القرآن ، ثم عرج به إلى السماء واحدا
بعد واحد حتى إلى فوق السموات السبع وإلى سدرة المنتهى بجسده وروحه جميعا ،
ثم عاد إلى السماء إلى مكة قبل الصبح ، وفيه أيضا دليل على علو الرب تعالى
وكونه فوق العرش مستويا عليه ، كما قال سبحانه في مواضع من كتابه : {
الرحمن على العرش استوى } .
فمن قال إن الاسراء في ليلة والمعراج في أخرى فقد غلط ، ومن قال إنه منام وأنه لم يسر بعبده فقد كفر .
وقد روى قصة الإسراء عن النبي جماعة من الصحابة كثيرة ، وكل ذلك أخبار صحيحة وآثار صريحة مقبولة مرضية عند أهل النقل .
واختلف أهل العلم : هل رأى ربه عز وجل أم لا ، فذهب إلى كل وجهة ذاهب من
الصحابة والتابعين واتباعهم وأهل الحديث والفقه والتاريخ ، والراجح ؛
الرؤية ، وبه قال الإمام أحمد ، وروي مآثورا ، والحديث الذي جاء فيها على
ظاهره ، وعن أنس أن النبي قال : ( فرجعت إلى ربي وهو في مكانه ) ، والحديث
بطوله مخرج في الصحيحين ، والمنكر لهذه اللقطة بعد ورود الحديث راد على
الله ورسوله وفي خطر عظيم .
فــصــل
ويجب الإيمان بكل ما أخبر النبي وصح به الخبر عنه - مما شهدناه أو غاب عنا -
أنه صدق وحق ، سواء في ذلك ما عقلناه أو جهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه .
وكان يقظة لا مناما .
ومن ذلك أشراط الساعة ، وأن الدجال الأعور خارج في هذه الأمة لا محالة ،
كما أخبر به النبي ، لا شك في ذلك ولا ارتياب وهو أكذب الكاذبين ، وأن عيسى
بن مريم عليهما السلام نازل ، ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق ،
فيأتيه أي الدجال وقد حصر المسلمين على عقبة افيق ، فيهرب منه ويقتله عند
باب لد الشرقي ، ولد أرض بفلسطين بالقرب من الرملة نحو ميلين .
ويظهر المهدي المنتظر ، ويخرج يأجوج ومأجوج ، وتطلع الشمس من مغربها ، وتخرج الدابة والنار ، وأشباه ذلك مما صح به النقل .
وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، ومن أنكر قيام
الساعة والحشر فقد كفر بالله العظيم وخرج عن ملة الإسلام .
فــصــل
ونؤمن بأن الموت حق .
وأن ملك الموت عليه السلام أرسل إلى موسى فصكه حتى فقأ عينه ، كما جاء عن
رسول الله في الصحيح ، لا ينكره إلا ضال أو مبتدع راد على الله ورسوله .
ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي بعد الموت ، فيؤمن بفتنة القبر وعذاب
الآخرة ونعمه ، وقد استعاذ النبي من عذاب القبر وأمر به في كل صلاة .
وفتنة الأجداث وضغطتها ، وسؤال منكر ونكير حق ، والناس يفتنون في قبورهم ،
فيقال ؛ من ربك ؟ وما دينك ؟ ، فـيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في
الحياة الدنيا والآخرة ، فيقول المؤمن ؛ ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد ،
واما المرتاب فيقول ؛ هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ،
فيضرب بمرزية من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها
الإنسان لصعق ، ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة
الكبرى فتعاد الأرواح إلى الأجساد .
وتقوم القيامة التي أخبر بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليه المسلمون
، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة عزلا ، تدنو منهم الشمس
ويلجمهم العرق .
فــصــل
وتنصب الموازين ، فيوزن فيها أعمال العباد من الحسنات والسيئات ، كما يشاء
الله أن يوزن { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه
فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون } ، والميزان له كفتان ولسان .
وتنشر الدواوين ، وهي صحائف الأعمال ، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله
ومن وراء ظهره ، ويحاسب الله الخلق ، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه
كما ورد في الكتاب والسنة ، وأما الكفار فلا يحاسبون ، محاسبته من توزن
حسناته وسيئاته ، فإنه لا حساب لهم ، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها
ويقررون بها ويخبرون بها .
وأصناف ما تتضمنه الدار الأولى والآخرة من أشراط القيامة والحساب والكتاب والثواب والعقاب .
والجنة والنار حق .
وكذلك الصور حق ، ينفخ فيه إسرافيل ، فيموت الخلق ، ثم ينفخ الأخرى فيقومون من الأجداث إلى الحساب .
وفصل القضاء .
واللوح المحفوظ تستنسخ منه أعمال العباد لما سبق فيه من المقادير والقضاء ،
والقلم حق كتب الله به كل شيء واحصاه في الذكر ، وتفاصيل ذلك مذكور في
الكتاب العزيز المنزل من السماء والسنة المطهرة والمأثور عن سيد الأنبياء ،
وفي العلم الموروث عن محمد والحديث المأثور عنه من ذلك ما يشفي ويكفي ،
فمن ابتغاه وجده .
والموت يؤتى به يوم القيامة فيذبح ، كما روى أبو سعيد عن النبي أنه قال : (
يوتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادى مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون
فيقول هل تعرفون هذا فيقولون هذا الموت كلهم قد راه فيذبح ثم يقال يا أهل
الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت ) ، قال تعالى : { وانذرهم
يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون }.
فــصــل
وفي عرصة القيامة الحوض المورود ، عن للنبي : ( ماؤه أشد بياضا من اللبن
وأحلى من العسل أنيته عدد نجوم السماء وطوله شهر وعرضه شهر من يشرب منه
شربة لا يظمأ بعده أبدا ).
والصراط منصوب على متن جهنم يجوزه الأبرار وينزل عنه الفجار ، وهو الجسر
الذي بين الجنة والنار ، يمر الناس عليه على قدر أعماله ، فمنهم من يمر
كلمح البصر ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالفرس
ومنهم من يمر كركاب الإبل ومنهم من يعدو ومنهم من يمشي شيئا ومنهم من يزحف
ويخطف ويلقى في جهنم ، والجسر عليه كلاليب يخطف الناس بأعمالهم ، فمن مر
على الصراط دخل الجنة .
وإذا عبروا وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض ، فإذا
هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ، وأول من يستفتح باب الجنة محمد ، وأول
من يدخل الجنة أمته .
والجنة والنار مخلوقتان اليوم باقيتان ، ولا يفنى أهلهما ، لقوله تعالى في
حق الفريقين : { خالدين فيها أبدا } ، والأصح أن الجنة في السماء وجهنم في
الأرض ، ولم يصرح بتعيين مكانهما بل حيث شاء الله تعالى ، والجنة دار
أوليائه والنار عقابه لأعدائه ، وأهل الجنة فيها مخلدون والمجرمون في عذاب
جهنم { لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون } ، وقد خلقت الجنة وما فيها وخلقت
النار وما فيها ، خلقهما الله عز وجل قبل القيامة وخلق لهما ولا يفنيان
أبدا .
فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله عز وجل { كل شيء هالك إلا وجهه } أو نحو
هذا من متشابه القرآن ، قيل له ؛ كل شيء مما كتب عليه الفناء والهلاك هالك
، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء والهلاك ، وهما من الآخرة لا من
الدنيا ، والحور العين لا تمتن عند قيام الساعة ولا عند النفخة ولا أبدا ،
لأن الله تعالى خلقهن للبقاء ولا للفناء ، ولم يكتب عليهن الموت ، فمن قال
خلاف هذا فهو مبتدع ضل عن سواء السبيل .
فــصــل
ويؤمن بأن المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى يوم القيامة ، عيانا بأبصارهم ،
كما يرون الشمس صحوا ليس دونها سحاب ، وكما يرون القمر ليلة البدر لا
يضامون في رؤيته ، يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة ثم يرونه بعد دخول
الجنة كما يشاء الله سبحانه ، فيكرمهم ويتجلى لهم من فوقهم ، ولا يراه
الكافرون ، قال تعالى : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } ، وقال تعالى :
{ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } ، وقال تعالى : { على الأرائك ينظرون
} ، وقال تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } ، وقال تعالى : { لهم ما
يشاءون فيها ولدينا مزيد } ، وهذا الباب في كتاب الله كثير ، من تدبر
القرآن طالبا الهدى منه تبين له طريق الحق .
وإن موسى عليه السلام سأل الله الرؤية في الدنيا ، وأنه تعالى تجلى ||
للجبل|| فجعله دكا ، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة .
وما ذكر اهل الكلام في مسألة الرؤية من نفي جهة ومقابلة واتصال شعاع وقرب
وبعد وما يتصل بهذا ، فليس في ذلك كله نص من الشارع ، ولم يتفوه به أحد من
سلف الأمة وأئمتها ، وإنما أحدثه المتكلمون المتخبطون في براهين الفلاسفة ،
فمن طواه على غره فقد أحسن واتبع ، ومن خاض فيه بعقله الناقص فقد أبعد
وابتدع .
قال الشيخ ولي الله الدهلوي : ( وهو مرئي للمؤمنين في يوم القيامة ، لوجهين ؛
أحدهما ؛ أن ينكشف عليهم انكشافا تاما بليغا أكثر من التصديق به عقلا ،
فكأنه الرؤية بالبصر إلا أنه من غير موازنة ومقابلة وجهة ولون وشكل ، وهذا
الوجه قال به المعتزلة وهو حق ، وإنما خطئوهم في تأويلهم الرؤية بهذا
المعنى ، أو حصرهم الرؤية في هذا المعنى .
وثانيهما ؛ أن يتمثل لهم بصور كثيرة كما أخبر به النبي ، حيث قال : " رأيت
ربي في أحسن صورة " فيرون هنالك ما يرون في الدنيا مناما ، وهذان الوجهان
نفهمهما ونعتقدهما وإن كان الله ورسوله أراد بالرؤيا غيرهما فنحن آمنا
بمراد الله تعالى ورسوله وإن لم نعلمه بعينه ) انتهى .
فــصــل
ولله تعالى ملائكة موكلون على كتابة الأعمال وحفظ العباد عن المهالك
والمهاوي والدعوة إلى الخيرات والحسنات ، ويلمون للعبد بالخير والرشد ، لكل
واحد منهم مقام معلوم لا يتجاوز عنه و { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون
ما يؤمرون } .
ومن خلق الله سبحانه الشياطين لهم لمة شر لابن آدم وتصرف فيهم وتجري من ابن آدم مجرى الدم .
فــصــل
ولا يخلد صاحب الكبيرة المسلم في النار ، والعفو عن الكبائر جائز ، وكذلك عفوها عمن مات بلا توبة جائز من باب خرق العوائد .
وبعثه الرسل إلى الخلق وتكليف الله عباده بالأمر والنهي عن ألسنتهم حق ،
وهم معصومون من الكفر والإصرار على الكبائر ، يعصمهم الله عنها .
ودعوة نبينا عامة لجميع الإنس والجن ، لقوله تعالى : { ليكون للعالمين
نذيرا } ، ولحديث مسلم ( بعثت إلى الخلق كافة ) ، وفيه من العموم ما لا
يقدر قدره .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب ، بشرط أن لا يؤدي إلى الفتنة وأن يظن قبوله .
والخلافة بعد رسول الله في قريش ما بقي من الناس اثنان ، وليس لأحد من
الناس أن ينازعهم فيها ولا يخرج عليهم ولا يقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة .
والجهاد ماض قائم مع الأئمة الأبرار والفجار مذ بعث النبي إلى أن يقاتل آخر الأمة الدجال ، لا يبطله جور جائز ولا عدل عادل .
والجمعة والعيدان والفطر والأضحى والحج مع السلاطين وملوك الإسلام ، وإن لم
يكونوا بررة عدولا أتقياء ، ودفع الصدقات والخراج والأعشار والفيء
والغنائم إليهم ، عدلوا فيها أو جاروا ، والانقياد لمن ولاه الله عز وجل
أمر الناس ، ولا ينزع يدا من طاعته ، ولا يخرج عليه بسيف حتى يجعل الله له
فرجا مخرجا ، ولا يخرج على السلطان ، يسمع ويطيع ، ولا ينكث بيعته ، فمن
فعل ذلك فهو مبتدع مخالف مفارق للجماعة ، ولا يمنعه حقه .
والإمساك في الفتنة سنة ماضية واجب لزومها ، فإن ابتليت فقدم نفسك دون دينك
، ولا تعن على الفتنة بيد ولا لسان ، ولكن اكفف يدك ولسانك وهواك .
ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة
وسمي أمير المؤمنين وجبت طاعته وحرمت مخالفته ، فيما ليس بمعصية لله
ولرسوله ، والخروج عليه وشق عصا المسلمين ، وإن أمرك السلطان بأمر هو لله
معصية فليس لك أن تطيعه البتة ، وليس لك أن تخرج عليه .
والاستثناء في الإيمان جائز ، غير أن لا يكون للشك ، بل هي سنة ماضية عند
العلماء ، ولو سئل الرجل ؛ أمؤمن أنت ؟ فإنه يقول ؛ أنا مؤمن إن شاء الله
تعالى ، أو مؤمن أرجو الله ، أو يقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله ،
روي ذلك عن ابن مسعود وعلقمة بن قيس وأسود بن يزيد وأبو وائل شقيق بن سلمة
ومسروق بن الأجدع ومنصور بن المعتمر وابراهيم النخعي ومغيرة بن مقسم الضبي
وفضيل بن عياض وغيرهم ، وهذا استثناء على يقين ، قال الله تعالى : {
ولتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين }.
فــصــل
وينكرون الجدال والمراء في الدين والخصومة في القدر ، والمناظرة فيما
يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم ، بالتسليم للروايات الصحيحة
وبما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول
الله ، ولا يقولون كيف ولم لأن ذلك بدعة .
ويقولون إن الله تعالى لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير ، ولم يرض بالشرك والكفر والمعاصي وإن كان مريدا له .
ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله " أن الله ينزل إلى السماء
الدنيا فيقول هل من مستغفر فاغفر له " كما جاء ، ويأخذون بالكتاب والسنة
كما قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ، ويرون
اتباع من سلف من أئمة الدين فيما يوافق القرآن والحديث لا في غيره ، ولا
يبتغون في دينهم ما لم يأذن به الله .
ويقرون أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال : { وجاء ربك والملك صفا
صفا } ، وأن الله تعالى يقرب من خلقه كيف يشاء كما قال : { ونحن أقرب إليه
من حبل الوريد } .
ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام سني بر وفاجر .
ويثبتون المسح على الخفين سنة ويرونه في السفر والحضر .
ويثبتون فرض الجهاد للمشركين من كانوا ، وأينما كانوا ، منذ بعث الله رسوله بالحق والصدق إلى آخر عصابة تقاتل الدجال .
وبعد ذلك يرون الدعاء لائمة المسلمين بالصلاح والسداد والنصيحة لهم ولعامتهم ولا يخرج عليهم بالسيف ، وأن لا يقاتلوا في الفتنة .
وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عليهم بعد موتهم تصل إليهم .
ويصدقون بأن في الدنيا سحرة ، وأن الساحر كافر وأن السحر كائن موجود في الدنيا .
ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم .
ويقرون أن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده حلالا كانت أو حراما .
وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه .
وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات تظهر عليهم .
وأن الأطفال أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وان شاء فعل بهم ما أراد ، والله
أعلم بما كانوا يعملون ، والله يعلم ما يعمل العباد ، وكتب أن ذلك يكون ،
وأن الأمر بيد الله .
ويرون الصبر على حكم الله ، والأخذ بما أمر الله والانتهاء عما نهى الله
عنه ، وإخلاص العمل لله والنصيحة للمسلمين ، ويدينون بعبادة الله في
العابدين ، والنصيحة لجماعة الإسلام ولكل مسلم ، واجتناب الكبائر والزنى
وشرب الخمر والسرقة وقول الزور وشهادة الزور والمعصية والفخر والكبر
والأزدراء على الناس والعجب والتفاخر بالأنساب والطعن في الأحساب .
ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة ، والتشاغل بقراءة القرآن مع التدبر والإمعان
، وكتابة الآثار ودرس الأحاديث ، والتمسك بها في كل حال من السخط والرضا ،
والنظر في السنة ، مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق وبذل المعروف وكف
الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية ، وتفقد المآكل والمشارب على وجه
الحلال .
ومن حرم المكاسب والتجارات وطيب المال من وجهه ، فقد جهل وأخطأ وخالف ، بل
المكاسب من وجهها حلال وقد أحلها الله ورسوله ، فالرجل ينبغي له أن يسعى
على نفسه وعياله من فضل ربه ، فان ترك ذلك على أنه لا يرى المكتسب فهو
مخالف .
والدين إنما هو كتاب الله عز وجل وآثار وسنن وروايات صحاح وأخبار صحيحة عن
الثقات بالرواية القوية المعروفة الصحيحة يصدق بعضها بعضا حتى ينتهي ذلك
إلى رسول الله وأصحابه والتابعين وتبعهم ومن بعدهم من الأئمة المعروفين
المقتدى بهم المتمسكين بالسنة والمتعلقين بالآثار ، لا يعرفون ببدعة ولا
يطعن فيهم بكذب ولا يرمون بخلاف أهل الحق ، مع أنه يجب على من له أدنى
تمييز أن يرجع إلى واضحات الكتاب والسنة ويقلد فيما خفي عليه بقدر الضرورة .
وقد يملأ أحدهم الأرض بتصانيفه ولو في خدمة الكتاب والسنة من التفسير
والشرح لهما ، هو مع ذلك جاثم على ما اتفق له من التقليد ، ساع في نحره
مذهب إمامه ولو بالتعسف ، مطرح لقول الله ورسوله موثر لما وجد عليه سلفه ،
ولا ينكر هذا إلا مغمور في الغفلة والجهل أو معاند لا يطلب منه المحاكمة
إلا بين يدي الله سبحانه ، ولو هاب كتاب الله أو حظي بلمعة من الإيمان
الصادق أو شمة من الإخلاص أو مذقه من الخوف لعرف وأنصف .
أخرج أهل السنن والمسانيد والمعاجم عن عدي بن حاتم ، قال : رأيت النبي وهو
يقرأ في سورة براءة { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } ،
فقال : ( أما أنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا شيئا أحلوه
وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه ) ، وظاهر هذا أنه ليس سواء احسان الظن بهم
والاطمئنان إليهم والاستغناء بكلامهم عن كلام الله وكلام رسله ، وقالوا هم
أخص منا وأرسخ به ، وتعصب كل لمتبوعه ، وصاروا فرقا متفرقا وأحزابا متحزبة ،
وسلكت هذه الأمة مسلك الأمم الماضية حذو النعل بالنعل ، وقد تواترت أحاديث
الافتراق تواترا معنويا - وهو من المعجزات النبوية - ولم يحمل على هذا في
الأمم الخالية وفي هذه الأمة إلا حب الدنيا من الجاه وجمع الحطام وإسعاف
المرام وانجاح الحاجات وطيب العيش والمرافق الدينوية واهوية النفس الأمارة
بالسوء ، وقد رأينا ذلك وجربناه في كثير من الأحياء يلبسون الحق بالباطل
ويكتمون الحق وهم يعلمون ، ويسلكون الطريقة الموصلة إلى ما ينفق عند الناس
ويدعون ما يوصل إلى حقائق الحق ، فإياك أن تعدل الخلق بربك وتؤثرهم عليه .
اللهم زينا يزينة الإيمان الخالص ، واجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا
مضلين ، سلما لأوليائك وحربا لأعدائك ، نحب بحبك من أحبك ونعادي بعداوتك من
خالفك ، وأجرنا من مضلات الفتن، آمين يا أرحم الراحمين .
فــصــل
ومن السنة هجران أهل البدع ومباينتهم وترك الجدال والخصومات في الدين
والسنة ، وكل محدثة في الدين بدعة ، وترك النظر في كتب المبتدعة والإصغاء
إلى كلامهم في أصول الدين وفروعه .
كالرافضة والخوارج والجهمية والقدرية والمرجئة والكرامية والمعتزلة ، فهذه فرق الضلالة وطرائق البدع .
والاختلاف في الفروع شائع كما في الطوائف الأربعة ، والمختلفون فيه محمودون
متابعون على اجتهادهم - من لم يخالف النص - واختلافهم رحمة واسعة ، إذا
كان مبينا على أدلة الكتاب والسنة ، كاختلاف الصحابة فيما بينهم ، وهم أسوة
الأمة ، واتفاقهم حجة عند قوم .
ثم من طريقهم اتباع آثار رسول الله باطنا وظاهرا ، والمشي على ظاهر السنة
وواضحها ، واتباع سبل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، واتباع
وصية رسول الله حيث قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين -
إلى قوله - وإياكم محدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ) .
ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله تعالى ، كما قال تعالى : { ومن أصدق من الله قيلا } ، وخير الهدي هدي محمد من هدي كل أحد سواه.
سموا أهل الكتاب والسنة وأهل الحديث والآثار.
والإجماع ما عليه أهل العلم من أقوال وأعمال ظاهرة وباطنة مما له تعلق بالدين .
والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح ، وبعدهم كثر الاختلاف
ولم يوجد إجماع على حده ، ولهذا أنكره الإمام أحمد وغيره من أهل التحقيق .
وهم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، على ما توجبه
الشريعة ، ويحافظون على الجماعات والجمعة ، ويدينون بالنصيحة للأمة ولولاة
الأمور ، ويعتقدون معنى قوله ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) -
وشبك بين أصابعه - ، وقوله : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم
كمثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) .
ويأمرون بالصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء ، والرضا بمر القضاء ،
ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ويقولون ( أكمل المؤمنين إيمانا
أحسنهم خلقا ) - كما في الحديث -
ويندبون إلى أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ، ويأمرون ببر
الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن
السبيل والرفق بالمملوك ، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على
الخلق بغير حق ، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفلها ، وكل ما يقولونه
ويفعلونه - من هذا وغيره - فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة ، وطريقتهم
هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا ، لكن لما أخبر النبي أن أمته
ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدا وهي الجماعة ، وفي
حديث أنه قال ( هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) ، صار
المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة ، وفيهم
الصديقون والشهداء ، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى ، أولي المناقب
المأثورة والفضائل المذكورة ، وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على
هدايتهم ، وهم الطائفة المنصورة التي قال فيها رسول الله : ( لا تزال طائفة
من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة )
.
فــصــل
في الإعتقاد بالكتاب والسنة
عن مالك أنه بلغه أن النبي قال : ( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله ).
وعن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله : ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن
تضلوا بعدي أحدهما من الآخر وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ،
وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني
فيهما ) [أخرجه الترمذي].
وعن العرباض بن سارية قال : صلى بنا رسول الله ذات يوم ، ثم أقبل علينا
بوجهه ، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب ، فقال رجل
: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟ ، قال : ( أوصيكم
بتقوى الله والسمع والطاعة ، وإن كان عبدا حبشيا ، فإنه من يعش منكم بعدي
فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ،
تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإنه كل محدثة
بدعة وكل بدعة ضلالة ) [أخرجه أبو داود والترمذي].
ومعنى عضوا عليها ؛ أي تمسكوا بها كما يتمسك العاض بجميع أضراسه .
وعن المقدام بن معد يكرب قال : قال رسول الله : ( ألا هل عسى رجل يبلغه
الحديث عني وهو متكئ على أريكته ، فيقول ؛ بيننا وبينكم كتاب الله تعالى
فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه ، وإن ما حرم
رسول الله كما حرم الله ) [أخرجه أبو داود والترمذي] ، وزاد أبو داود في
أوله ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ) ، وذكر بمعناه .
والأريكة السرير في الجملة وقيل هو كل ما اتكئ عليه .
وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري قال : قال رسول الله : ( إن مثل ما
بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة
طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء
فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا ، وأصاب طائفة منها أخرى
إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله
ونفعه بما بعثني الله تعالى به فعلمه وعلمه ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا
ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به ) [رواه الشيخان].
وعن ابن مسعود قال : ( إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدي محمد وشر
الأمور محدثاتها ، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ) [رواه البخاري].
وعن عائشة قالت : قال رسول الله : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو
رد ) [أخرجه الشيخان وأبو داود] ، وفي رواية ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا
فهو رد ) .
وعن ابن عباس قال : ( من تعلم كتاب الله ثم اتبع ما فيه ، هداه الله من الضلالة في الدنيا ووقاه سوء الحساب في الآخرة ) .
وعن عمر بن الخطاب قال : ( تُركتم على الواضحة ليلها كنهارها ، كونوا على دين الأعراب والغلمان في الكتاب ) .
وعن علي بن أبي طالب قال : ( تركتم على الجادة منهج عليه أم الكتاب ) [أخرجها رزين] .
وعن ابن مسعود أنه قال : ( من كان مستنا فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا
تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد كانوا أفضل هذه الأمة أبرها قلوبا
وأعمقها علما وأقلها تكلفا ، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيهم ولإقامة دينه ،
فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم وتمسكوا بما استطعتم من اخلاقهم
وسيرهم ، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم ) [أخرجه رزين].
وعن عمرو بن عوف قال : قال رسول الله : ( إن الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا
كما بدأ فطوبى للغرباء ، وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي )
[رواه الترمذي].
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله : ( يكون في آخر الزمان دجالون كذابون
يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا أباؤكم فإياكم وإياهم لا
يضلونكم ولا يفتنونكم ) [رواه مسلم].
وعن ابن مسعود ، قال رسول الله : ( ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا
كان له في أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم تخلف من
بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده
فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس
وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) [رواه مسلم].
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله : ( من دعا الى هدى كان له من الأجر مثل
أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا الى ضلالة كان عليه من
الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ) [رواه مسلم].
وعن أبي رافع قال : قال رسول الله : ( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته
يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول لا أدري ما وجدنا في
كتاب الله اتبعناه ) [رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي في
دلائل النبوة].
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما
جئت به ) [رواه في شرح السنة ، قال النووي في أربعينه هذا حديث صحيح
رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح].
وعن بلال بن الحارث المازني قال : قال رسول الله : ( من أحيى سنة من سنتي
قد أميتت بعدي ، فإنه له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم
شيئا ، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من
عمل بها لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئا ) [رواه الترمذي وابن ماجة عن كثير
بن عبد الله بن عمرو عن أبيه عن جده].
وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله : ( إن بني اسرائيل تفترق عن
ثنتين وسبعين ملة ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلى
ملة واحدة ) ، قالوا : من هي يا رسول ؟ ، قال : ( ما أنا عليه وأصحابي )
[رواه الترمذي].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من تمسك بسنتي ، عند
فساد أمتي ، فله أجر مئة شهيد ) [رواه البيهقي في كتاب الزهد له من حديث
ابن عباس].
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله : ( إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما
أمر به هلك ، ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا ) [رواه
الترمذي].
وعن عضيف بن الحارث الثمالي قال : قال رسول الله : ( ما أحدث قوم بدعة إلا
رفع مثلها من السنة ، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة ) [رواه أحمد].
وعن إبراهيم بن بميسرة قال : قال رسول الله : ( من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ) [رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسلا].
وعن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله : ( إن الله فرض فرائض فلا
تضيعوها ، وحرم حرمات فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وسكت عن
أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) [رواه الدارقطني].
وعن عبد الله بن الديلمي قال : ( بلغني أن أول ذهاب الدين ترك السنة ، يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة ) [رواه الترمذي].
وعن ابن مسعود قال : ( ما سألتمونا عن شيء من كتاب الله فعلمناه أخبرناكم
به ، أو سنة من نبي الله أخبرناكم به ولا طاقة لنا بما أحدثتم ) [رواه
الدرامي].
قلت : هذه جملة مختصرة من الكتاب والسنة واثار السلف فالزمها وما كان مثلها
مما صح عن الله ورسوله وصالح سلف الأمة بما حصل من الاتفاق عليه من خيار
الأمة ، ودع أقوال من عداهم محقور مهجورا مبعدا مدحورا مذموما ملوما ، وإن
اغتر كثير من المتأخرين بأقوالهم وجنحوا إلى اتباعهم ، فلا تغتر بكثرة أهل
الباطل ، فقد قال تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } ، وقال رسول الله : (
بدأ الأسلام غريبا وسيعود كما بدأ ، فطوبى للغرباء ) [رواه مسلم].
ولنعم ما قيل :
إن القلوب يد الباري تقلبها |
|
فسأل الله توفيقا وتثبيتا |
من يضلل الله لا تهديه موعظة |
|
وإن هديت فبالأخبار انبيتا |
فهذه غربة الإسلام أنت بها |
|
فكن صبورا ولو في الله أوذيتا |
فهذه الاقاويل التي وصفت مذاهب أهل السنة والأثر وأصحاب الرواية وحملة
العلم النبوي ، فمن خالف شيئا من هذه أو طعن فيهم أو عاب قائلها ، فهو
مخالف مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق .
وما ذكرته من العقائد ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوه ليحفظه ، ثم لا
يزال ينكشف له معناه في كبره شيئا فشيئا ، ومن فضل الله على قلب الإنسان ان
شرحه في أول نشوه للإيمان من غير حاجة إلى حجة وبرهان ، فلا بد من إثباته
في نفس الصبي والعامي حتى يترسخ ولا يتزلزل ، وليس الطريق في تقويته
وإثباته أن يعلم صفة الكلام والجدال ، بل يشتغل بتلاوة
القرآن وقراءة الحديث ومعانيه ويشتغل بوظائف العبادات ، فلا يزال اعتقاده
يزداد رسوخا بما يقرع سمعة من أدلة القرآن وحججه وبما يرد عليه من شواهد
الأحاديث وفوائدها وبما يسطع عليه من أنوار العبادة ووظائفها .
وينبغي أن يحرس سمعه من الجدال والكلام غاية الحراسة ، فإن ما يشوشه الجدل
أكثر مما يمهده ، وما يفسده الكلام أكثر مما يصلحه ، وقد كتبنا في ذم
الكلام رسالة سميناها " قصد السبيل في ذم الكلام والتأويل " ، وناهيك
بالعيان برهانا ، فقس عقيدة آهلي الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة
المتكلمين والمجادلين ، ترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ لا
تحركه الدواهي والصواعق ، وعقيدة المتكلم الحائر بين اعتقاد وتقسيمات الجدل
، كخيط مرسل في الهواء تقلبه الرياح مرة هكذا ومرة هكذا .
ثم الصبي إذا وقع نشوه على هذه العقيدة إن اشتغل بكسب الدنيا لم يتضح له
غيرها ، ولكنه يسلم في الاخرة باعتقاد أهل الحق ، إذ لم يكلف الشرع أجلاف
العرب أكثر من التصديق الجازم بظاهر هذه العقائد ، فأما البحث والتفتيش
وتكلف نظم الأدلة فلم يكلفوا به أصلا ، إن أراد أن يكون من سالكي طريق
الآخرة وساعده التوفيق حتى اشتغل بالعمل ولازم التقوى ونهى عن الهوى واشتغل
بالرياضة والمجاهدة انفتحت له أبواب من الهداية تكشف عن حقائق هذه العقيدة
وتنور الهي يقذف في قلبه بسبب المجاهدة تحقيقا لوعده عز وجل حيث قال : {
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } .
خاتمة الرسالة
قد زعمت في هذه المسائل والأبحاث التي ذكرتها في هذه الرسالة - وفي رسائل
أخرى - أني لاحظت الحق ونصرته بجهدي وتابعت الكتاب والسنة بحسب فهمي وغاية
ما عندي ، واضربت عن المقاولات والمراجعات وطويت الكشح عن دفع الاعتراضات
الباطلات ، مع أني قصير الباع قليل الإطلاع ، فما أخطأت فيه من كلامي
وخالفت فيه واضح الكتاب وصريح السنة فعلى كل مسلم رده والاجتناب عنه ،
ومتابعة الكتاب العزيز والسنة المطهرة دونه ، فإنما قصدي نصرتهما لا
مخالفتهما ، فما أصبت فيه فمن الله سبحانه وله فيه الحمد والمنة والشكر
والثناء ، وما أخطأت فيه فالذنب فيه مني ومن الشيطان ، وعلي فيه البراءة
منه والتوبة عنه والاستغفار والتحذير ، وأشد الكراهة أن لا أفرق بين كراهة
ما صدر مني من البدع والخلاف وما صدر من غيري بناء على الإنصاف والإعتساف ،
بل يجب أن أكون أشد كراهة لما صدر مني لأنه ذنب يضرني واؤاخذ بسببه وذنب
غيري لا يضرني ولا اؤاخذ به .
والله سبحانه أسأل أن يسلمني من البدع والذنوب ويغفر لي ما أخطأت فيه من
الأصول والفروع ، إنه واسع الغفران والرحمة وهو حسبي وكفى في الآخرة
والأولى .
والمحامي عن السنة المطهرة والكتاب العزيز والذاب عنهما كالمجاهد في سبيل
الله تعالى ، وروح القدس مع من ذب عن دين الله وسنة نبيه ونافح عنهما من
بعده إيمانا وحبا ونصحا له ، رجاء أن يكون من الخلف الصالح الذين قال فيهم
رسول الله ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين
وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ) .
والجهاد باللسان أحد أنواع الجهاد وسبله ، وما المراد إلا بيان الحق
وانتصار الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، كما تطابق عليه القرآن الكريم
والسنة الغراء ، ولا أعيب على من خالفني في شيء ، ولا يعاب التقصير فيه علي
لأني مقر به وأهله ومحله ، مع الدعاء واللجأ إلى الله سبحانه أن يهديني
للهدى وييسر الهدى لي ، وقد وعد به في كتابه الحكيم مؤكدا بمؤكدات فقال : {
إن علينا للهدى } ، وقال : { وعلى الله قصد السبيل } هذا للخلق عموما
وللمؤمنين خصوصا : { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } ، وإنما يضل أكثر الخلف من
تركهم العمل بآيات الله البينات والسنة وتطلبهم غيرها ، قال الله تعالى : {
وكم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله
شديد العقاب } ، فليحذر من ذلك كل الحذر من عدم القنوع بما قنع به السلف من
حجج الله ، فيا له من تخويف شديد ووعيد عظيم .
وإنما يعرف الحق من جمع خمسة أوصاف : أعظمها الإخلاص والفهم والإنصاف ،
ورابعها - وهو أقلها وجودا وأكثرها فقدانا - الحرص على معرفة الحق وشدة
الدعوة إلى ذلك .
والبدع قد كثرت والمحدثات والمحدثات قد عمت و قد عمت البلوى بالاشراك وكثر
الدعاء إليها والتعويل عليها ، وطلاب الحق اليوم شبه طلابه في أيام الفترة -
وهم سلمان الفارسي وزيد بن عمر بن نفيل وأضرابهما - فإنهم قدوة لطالب الحق
وفيهم له أعظم أسوة لما حرصوا على الحق وبذلوا الجهد في طلبه حتى بلغهم
الله إليه وأوقفهم عليه وفازوا من بين العوالم الجمة ، فكم أدرك الحق طالبه
في زمن الفترة ، وكم عمي عنه من طلبه في زمن النبوة ، فاعتبر بذلك واقتد
بأولئك الكرام ، فإن الحق ما زال مصونا عزيزا نفيسا كريما لا ينال مع
الإضراب عن طلبه وعدم التشوق والإشراف إلى سببه ، ولا يهجم على البطالين
المعرضين ، ولا يناجي أشباه الأنعام الضالين .
ما أعظم المصاب بالغفلة والإغترار بطول المهلة ، فليعرف مريد الحق قدر ما
هو طالبه ، فإنه طالب لأعلى المراتب { ومن أراد الأخرة وسعى لها سعيها وهو
مؤمن } ، { خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه } ، فليس في الوجود بأسره
أعز من الإيمان بالله وكتبه ورسله ومتابعتها ومعرفة ما جاءوا به إلا تطلب
ذلك أهون الطلب ، فإن طلبة الدنيا وزخارفها الفانية يرتكبون الأخطاء
والمتالف الكبار ، وينفق أحدهم غضارة عمره ونضارة شبابه وأبان أيامه فيها ،
وهي لا تحصل لهم على حسب المراد ، فكيف بما هو أبقى وخير منها ، ولم
يرفعوا له رأسا ولم يبنوا لها أساسا ، وإنما أطلنا القول لأني أعلم
بالضرورة في نفسي وغيري أن جهل الحقائق أكثرها إنما سببه عدم الإهتمام
بمعرفتها على الانصاف وترك الإعتساف ، لا عدم الفهم والإدراك ، فإن من اهتم
بشيء أدركه ، فكيف لا يفهم طالب الحق مقاصد الانبياء والمرسلين والسلف
الصالحين مع الاهتمام فيه وبذل الجهد فيه وحسن القصد ولطف أرحم الراحمين .
ولا ينبغي لطالب الحق والصواب أن يصغي إلى من يصده عن كتب الله وما أنزل
فيها من الهدى والنور والرحمة ، لطفا للمؤمنين ونعمة للشاكرين ، وليحذر كل
الحذر من زخرفتهم وتشكيكهم ،
وليعتبر بقول الله لرسوله المعصوم : { وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا
اليك } ، ويا لها من موعظة موقظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ،
ولا يستوحش من ظفر بالحق بكثرة المخالفين ، وليوطن نفسه على الصبر واليقين ،
نسأل الله تعالى أن يرحم غربتنا في الحق ويهدي ضالنا ولا يردنا من أبواب
رجائه ودعائه وطلبه ورحمته محرومين .
وخامسها وهو أصعبها المشاركة في العلم والتمييز والفهم والدراية ، حتى
يتمكن من معرفة الحق ومقدار ما يقف عليه ، فيرغب فيه من غير تقليد ، لأنه
لا يعرف المقادير إلا ذو بصر نافذ وفهم ماض ، فان عرضت له محنة لم يتطير
بطلب الحق ، فيكون ممن يعبد الله على حرف ، وليثق بمواعيد الله وقرب الفرج ،
قال تعالى : { فتوكل على الله إنك على الحق المبين } ، { فاصبر إن وعد
الله حق ولا يستخفنك الذين لا يؤمنون } ، وليعلم يقيا أنه تعالى مع
الصابرين والصادقين والمحسنين ، وأن الله سبحانه ناصر من ينصره وذاكره من
يذكره ، وإن سر رسول الله في هذه الأمور عائد على متبعيه ونصره شامل
لناصريه ، وقد أمر الله تعالى بالمعاونة على البر والتقوى وصح الترغيب في
الدعاء إلى الحق والخير ، وأن الداعي إلى ذلك يؤتى مثل أجور من اتبعه ومن
أحيى نفسا فكأنما أحيى الناس جميعا ، ومن أمر بالصلاح والاصلاح ابتغاء
مرضات الله فسوف يؤتيه أجرا عظيما ، وفي سورة العصر قصر السلامة في الجسر
على الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر { ومن أحسن
قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } .
وأنا أستغفر الله وأسأله التجاوز عني والمسامحة في كل ما أخطأت ، فإني محل
الخطأ والغلط وأهله ، وهو سبحانه أهل التقوى والمغفرة والسعة والمسامحة
والغنا الأعظم والكرم الأكبر عن مضايقة المساكين والجاهلين ، إذ كان الله
سبحانه وتعالى غنيا عن عرفان العارفين غير متضرر بجهل الجاهلين .
وآخر كلامي كأوله : أن الحمد لله رب العالمين ، وصلاته وسلامه على محمد سيد
المرسلين وخاتم النبيين وشفيع المذنبين وآله الطيبيين الطاهرين وصحبه
الراشدين المهدييين إلى يوم الدين .
هذا ؛ وكان الفراغ من زبرها غداة يوم الأربعاء من شهر ذي القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين وألف .
في بلدة بهوبال المحمية صانها الله تعالى وأهلها عن جميع البلية والرزية .
وأنا العبد الفقير إلى الله الغني به عمن سواه .
أبو الطيب صديق بن حسن بن علي بن الحسين القنوجي.
غفر الله ولله وأصلح خلله وتقبل عمله وبلغه أمله.
وقد جمعها تعليما لفلذة كبده وأصغر ولده وثمرة فؤاده السيد علي بن صديق بن حسن .
فسح الله في علمه وعمره وعمله وأمده وبارك له وفيه وكان مدى لأزمان في مدده وسميتها " قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر ".
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا
إني سألتك بالله الذي خضعت |
|
له السموات وهو الواحد الباري |
إذا تأملت فاستغفر لجامعه |
|
لعل جامعه ينجو من النار |
ثم اختم هذا الكلام على هذا النظام :
يا رب إن عظمت ذنوبي جهرة |
|
فلقد علمت بأن عفوك أعظم |
إن كان لا يرجوك إلا محسن |
|
فبمن يلوذ ويستجير المجرم |
مالي إليك وسيلة إلا الرجا |
|
لعظيم عفوك ثم إني مسلم |