إباحة الفوائد الربوية؛ ضلال وإضلال
أصدر
"مجمع البحوث الإسلامية" بالأزهر مؤخراً؛ فتوى بإباحة الفائدة على القروض
البنكية، والمقصود بالفوائد هنا؛ تلك النسبة التي تحددها البنوك الربوية
مقدماً لعملائها الذين يضعون أموالهم لديها.
وقد حرص شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي على أن يعلن بنفسه هذه الفتوى في مؤتمر صحفي [بحسب ما ذكرت صحف القاهرة الصادرة في يوم الخميس الثامن من شوال/14123 هـ]، ومن المعلوم أن الشيخ طنطاوي كان يتبنى هذا الرأي منذ أن كان مفتياً للجمهورية، وقد كان يخالف في ذلك رأيَ شيخ الأزهر السابق الشيخ جاد الحق على جاد الحق.
والذي كان "مجمع البحوث" في عهده متمسكاً بالقرار [الذي صدر عنه في دورته الثانية عام 1385ه - 1965م]، والقاضي بأن: (الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي... وأن الحسابات ذات الأجل وفتح الاعتماد بفائدة وسائر أنواع الإقراض نظير فائدة كلها من المعاملات الربوية وهي محرمة).
الجديد في الأمر؛ أن الفتوى قد جاءت هذه المرة مبنية على أن المصرف إنما هو وكيل عن المتعاملين في استثمار أموالهم مقابل ربح يصرف لهم ويحدد مقدما في مدد يتفق مع المتعاملين معه عليها، بينما كانت فتاوى الشيخ طنطاوي السابقة تعتمد على أن هذه المعاملة نوع من المضاربة، وإن اتفقت الفتويان في أن تحديد الربح مقدماً ليس بحرام بل هو حلال لا شبهة فيه؛ لأنه واقع بتراضي الطرفين وليس في النصوص الشرعية ما يحرمه.
وكررت الفتوى الجديدة ما كان يردده الشيخ طنطاوي من أن البنوك عندما تحدد للمتعاملين معها هذه الأرباح مقدماً: (إنما تحددها بعد دراسة دقيقة لأحوال الأسواق العالمية والمحلية وللأوضاع الاقتصادية في المجتمع ولظروف كل معاملة ولنوعها ولمتوسط أرباحها، وأن تحديد الربح مقدما فيه فائدة للطرفين فالعميل يعرف حقه معرفة خالية من الجهالة، وفيه منفعة للقائمين علي إدارة هذه البنوك لأن هذا التحديد يجعلهم يجتهدون في عملهم وفي نشاطهم حتى يحققوا ما يزيد علي الربح الذي حددوه لصاحب المال، وحتى يكون الفائض بعد صرفهم لأصحاب الأموال حقوقهم حقا خالصا لهم في مقابل جدهم ونشاطهم).
والحق؛ أن الإنسان ليعجب من إصرار الشيخ طنطاوي على موقفه هذا مع مخالفته لما أجمعت عليه المجامع الفقهية المعتبرة في العالم الإسلامي، من اعتبار تلك الفوائد من قبيل الربا المحرم، ومن ذلك ما سبقت الإشارة إليه من مقررات "مجمع البحوث الإسلامية".
كما أصدر "مجمع الفقه الإسلامي" المنبثق عن "منظمة المؤتمر الإسلامي" في دور انعقاده الثاني [سنة 1406 هـ] قراراً بشأن التعامل مع التعامل المصرفي بالفوائد يتضمن أن: (كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة أو الفائدة على القرض منذ بداية العقد هاتان الصورتان محرمتان شرعاً).
وكذا ناقش "مجلس المجمع الفقهي" ب "رابطة العالم الإسلامي" بدورته التاسعة [عام 1406 هـ] هذا الموضوع، وانتهى إلى حرمة الفوائد الربوية، مبيناً أن المؤتمرات والندوات الاقتصادية التي عقدت في أكثر من بلد إسلامي؛ قررت حرمة تلك الفوائد بالإجماع، وأثبتت إمكان قيام بدائل شرعية عن البنوك والمؤسسات القائمة على الربا.
وعليه فقد قرر المجلس أنه: (يجب على المسلمين كافة أن ينتهوا عما نهى الله عنه من التعامل بالربا أخذاً وعطاءً، والمعاونة عليه بأي صورة من الصور حتى لا يحل بهم عذاب الله، ولا يأذنوا بحرب من الله ورسوله، كما قرر المجمع أنه ينظر بعين الارتياح والرضا إلى قيام المصارف الإسلامية التي هي البديل الشرعي للمصارف الربوية... ويدعو المجلس المسلمين في كل مكان إلى مساندة هذه المصارف وشد أزرها وعدم الاستماع إلى الشائعات المغرضة التي تحاول التشويش عليها وتشويه صورتها بغير حق).
بل إن شيخ الأزهر - وهو رئيس "مجمع البحوث الإسلامية" - قد تجاهل - طبقاً لما ذكرت "جريدة الأسبوع" في عددها الصادر في الخامس من شوال/1423هـ نقلاً عن مصادرها بالمجمع – تجاهل "اللجنة الفقهية" المختصة ببحث هذه القضية، والمكونة من الدكتور محمد رأفت عثمان أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، والدكتور عبد الفتاح الشيخ رئيس جامعة الأزهر السابق، والدكتور محمد حامد جامع وكيل الأزهر السابق.
كما اكتفى شيخ الأزهر بدعوة ثلاثة وعشرين عضواً فقط من أعضاء المجمع للاجتماع من أجل إصدار هذه الفتوى، وافق عليها منهم عشرون عضواً فقط، في حين يشترط قانون الأزهر موافقة المجمع على الفتاوى بأغلبية أعضائه الخمسين، وهذا يعني أن هذه الفتوى لا يمكن أن تكون ممثلة لرأي المجمع الذي صدرت باسمه، وإنما هي تعبر فقط عن رأي شيخ الأزهر وهؤلاء الذين لفوا لفه وارتضوا طريقته.
وقد رأيت من باب بيان الحق والنصح للمسلمين؛ أن أقف وقفات يسيرة مع هذه الفتوى الجديدة، مبيناً - باختصار وقدر الطاقة - ما تحويه من المخالفة للأصول الشرعية المعتمدة.
فأقول - وبالله التوفيق -:
أولاً؛ ليست هذه وكالة:
إننا نقول؛ إنه لا يمكن - والله أعلم - اعتبار العلاقة بين العميل والبنك علاقة وكالة شرعية.
وذلك لأن العقد الذي يكون بين البنك والعميل؛ لا ينص على أن العميل قد وكل البنك في استثمار أمواله نظير كذا من المال، وإنما ينص؛ على أنه قد سلم للبنك مبلغ كذا على أن يرده له بفائدة سنوية قدرها كذا، فأي وكالة في هذا؟
ثم إن البنك يتملك هذه النقود ويتصرف فيها كيفما شاء، ولو تلفت فإنه مسؤول عنها، بينما يد الوكيل في الفقه الإسلامي؛ يد أمانة، بمعنى أنه إن تلف منه المال دون تفريط ولا مخالفة لموكله فإنه ليس مسؤولاً عن رده.
وعقد الوكالة؛ يقتضي أن يكون المال المستثمر وما ينتج عنه من ربح من حق صاحب المال وحده، وليس للوكيل إلا ما اتفق عليه من أجر إن كان قد تم الاتفاق على أجر - لأن الوكالة تصح بأجر وبدون أجر -
وفي الحديث؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطى عروة بن أبي الجعد البارقي ديناراً يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار فجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه [أخرجه البخاري: 3642، وأبو داود: 3384، والترمذي: 1258، وابن ماجه: 2402، من حديث عروة البارقي].
فقد جاء عروة بأصل المال والربح إلى الموكِّل - وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وفي كتاب "الإجماع" لابن المنذر [ص: 160]: (وأجمعوا على أن الرجل إذا وكل الرجل بقبض دين له على آخر فأبرأ الوكيل الغريم من الدين الذي عليه، أن ذلك غير جائز؛ لأنه لا يملكه، ولا فرق بين هذا وبين ثمن السلعة للموكل على المشتري) أهـ.
والذي يحدث في المعاملات البنكية عكس هذا الذي ذكرناه، فالبنك هو الذي يحصل علي كل العائد من استثمار المال؛ إن كان ثمة استثمار - لأنه في الحقيقة لا يستثمر كما سيأتي - ولا يعطي لصاحب المال إلا القدر الضئيل الذي يحدد من طرف واحد وهو البنك.
ثانياً؛ ليس البنك جهة استثمار:
إن القول بأن البنك وكيل عن العميل في استثمار ماله، معناه؛ أن وظيفة البنك هي القيام باستثمار الأموال التي يودعها لديه العملاء.
وهذا ينم عن جهل - أو تجاهل - لطبيعة البنوك التجارية وطريقة عملها، وكل من له إلمام بدراسة البنوك؛ يعلم أن الحقيقة غير ذلك، وبمراجعة سريعة لأي من الكتب التي تعنى بدراسة النقود والبنوك مما يدرس في كليات التجارة والاقتصاد؛ يمكن معرفة الدور الرئيس لهذه البنوك، ألا وهو التجارة في الديون، فهي تقترض من العملاء مالاً بفائدة ربوية، ثم تقرضه بفائدة أعلى، ومن الفارق بين النسبتين تأتي أرباح البنوك الضخمة.
يقول الدكتور محمد زكي شافعي في كتابه "مقدمة في النقود والبنوك": (يمكن تلخيص أعمال البنوك التجارية في عبارة واحدة؛ هي التعامل في الائتمان أو الاتجار في الديون، إذ ينحصر النشاط الجوهري للبنوك في الاستعداد لمبادلة تعهداتها بالدفع لدى الطلب بديون الآخرين سواء كانوا أفراداً أم مشروعات أم حكومات).
أما المهمات الاستثمارية؛ فإن ما تقوم به البنوك التجارية منها هو شيء ضئيل جداً قد لا تتعدى نسبته نصف بالمئة من إجمالي المال المودع لديها - على ما بينه الدكتور على السالوس بالوثائق والأرقام في ردوده القيمة على فتاوى الشيخ طنطاوي بهذا الخصوص [يراجع كتابه "الاقتصاد الإسلامي والقضايا الفقهية المعاصرة": 1/100، وما بعدها] -
بل إن البنوك الربوية تقوم بما يسميه علم النقود والبنوك ب "مهمة خلق الائتمان"، أي إقراض نقود لا وجود لها في الحقيقة، فهي تقرض أكثر مما لديها من ودائع.
وذلك مثل ما يحدث في ما يسمى بفتح الاعتماد، وهو عقد يلتزم البنك بمقتضاه بوضع مبلغ معين تحت تصرف العميل خلال مدة معينة، وللعميل الحق في سحب هذا المبلغ أو بعضه خلال المدة المذكورة، وقد يحدث أن لا يسحب العميل المبلغ أو جانباً كبيراً منه، ومع ذلك فهو ملتزم بدفع عمولة معينة، تستحق غالباً بمجرد إبرام عقد فتح الاعتماد.
ثالثاً؛ ودائع البنوك قرض شرعاً وقانوناً:
إن التوصيف الفقهي الصحيح لما يضعه العملاء لدى البنوك من أموال؛ أنه قرض يجري عليه ما يجري على القرض من عدم جواز اشتراط الزيادة عليه، وذلك لأن هذا المال يدخل في ملكية البنك منذ إيداعه فيه، وله أن يتصرف فيه كما يشاء، وهو متعهد برد مثله لا عينه، وهو ضامن لهذا المال في حال تلفه أو ضياعه وإنْ كان ذلك بلا تفريط منه، وهذه هي طبيعة القرض كما حددها الفقه الإسلامي.
هذا إضافة إلى أن القوانين التي تحكم عمل تلك البنوك القانونية والتي يتم التحاكم إليها عند الاختلاف؛ تعتبره قرضاً أيضاً.
فقد نصت [المادة: 726] من القانون المدني المصري على أنه: (إذا كانت الوديعة مبلغاً من النقود، أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال وكان المودع عنده مأذوناً له في استعماله اعتبر العقد قرضاً).
وعلى ذلك؛ فكل زيادة مشترطة على هذا القرض فهي من قبيل الربا المحرم، ولا يُصيِّرُها حلالاً أن تكون قد تمت بتراضي الطرفين، لأن تراضيهما لا يحيل الحرام حلالاً، وكم من معاملة حرمها الإسلام مع أنها قد تتم بتراضي الطرفين، فالزنا حرام وإن تم برضا الطرفين، والميسر حرام وإن تراضى عليه الطرفان، وربا الفضل حرام ولو تراضى عليه الطرفان.
وفي الحديث؛ أن بلالاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر بَرْني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (من أين هذا؟)، قال بلال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (أوَّهْ، أوَّهْ، عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به) [أخرجه البخاري: 2312، ومسلم: 1594، والنسائي: 7/273، من حديث أبي سعيد الخدري].
رابعاً؛ حقيقة الدراسات الدقيقة لدى البنوك:
كرر شيخ الأزهر - في معرض دفاعه عن تحديد مقدار الفائدة مقدماً - ما قاله قبل ذلك مراراً، من أن نسبة الفوائد التي تحددها البنوك لا تأتي اعتباطاً، وإنما تحدد بعد دراسة دقيقة لأحوال الأسواق العالمية والمحلية وللأوضاع الاقتصادية في المجتمع ولظروف كل معاملة ولنوعها ولمتوسط أرباحها.
ومع أن هذا القول قد أصبح غير ذي موضوع بعدما بيناه من أن إيداع الأموال في البنوك الربوية إنما هو من قبيل القرض الذي لا تجوز الزيادة فيه، إلا أني أرى من المناسب أن أقف قليلاًً عند هذه المقولة أيضاً.
وذلك أن هذا التحديد الذي يراه شيخ الأزهر دقيقاً؛ ليس مبنياً على دراسة لمشروعات استثمارية يقوم بها البنك، فالبنك لا يهتم بالاستثمار - كما أسلفنا - وإنما هو يهتم بإقراض ما أقترضه، ولا شك أنه يقوم بدراسة السوق من هذه الوجهة ومعرفة الاحتمالات الممكنة، وهو يحاول دائماً أن يحقق لنفسه أعلى عائد ممكن، وهو يحتاط لنفسه فلا يقدم على أمر إلا بعد ضمان مكسبه فيه، ولذا فإن البنوك التجارية تميل في أوقات الرخاء إلى التوسع في الإقراض بفتح الاعتمادات التي تربو على رصيدها أضعافاً مضاعفة، بينما تميل في أوقات الركود إلى التضييق في الإقراض أو الكف عنه - كما يذكر صاحب "كتاب الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية" [ص: 315] -
ثم نقول؛ إن هذه الحسابات الدقيقة التي يتحدث عنها شيخ الأزهر لم تحل دون وقوع الخسائر في البنوك وانهيارها وضياع أموال المودعين، كما حدث في انهيار "بنك الاعتماد" وغيره.
وقد أثبت الاقتصاديون الغربيون أن هذا القبض والبسط الذي تتبعه البنوك التجارية؛ من أهم أسباب حدوث الأزمات الاقتصادية في العالم.
ومن ذلك ما قاله الاقتصادي الأمريكي "هنري سيمنز" معلقاً على الكساد الذي اجتاح العالم عام 1929: (لسنا نبالغ إذا قلنا إن أكبر عامل في الأزمة الحاضرة هو النشاط المصرفي التجاري بما يعمد إليه من إسراف خبيث أو تقتير مذموم في تهيئة وسائل التداول النقدي، ولا نشك في أن البنوك – بمعاونة الاحتكار - سوف توالينا بأزمات أشد وأقسى إذا لم تتدخل الدولة في الأمر...) [انظر "الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية"، لعمر بن عبد العزيز المدرك: ص 315].
خامساً؛ أين الورع والبعد عن الشبهات؟
كثرت في فتاوى الشيخ طنطاوي، وخصوصاً في الموضوع الذي نحن بصدده؛ عبارات التأكيد التي لا تناسب الحديث في أمر مختلف فيه - بل لا يكاد يوافقه على قوله فيه أحد من أهل العلم الذين يعتد بخلافهم - وذلك كقوله: (حلال لا شبهة فيه)، أو قوله: (حلال، حلال، حلال).
وإني لأسأل شيخ الأزهر؛ كيف يكون التعامل مع هذه البنوك أمراً لا شبهة فيه، وقد خالفتَ فيه أعضاء المجامع الفقهية التي أشرنا إليها وغيرهم من أهل العلم الذين ردوا عليك وبينوا بطلان فتواك؟ أفلا تشعرك هذه المخالفة بأن في الأمر شبهة؟ إن لم نقل تشعرك بخطئك وتحملك على التفكير في التراجع عنه؟
ثم بفرض أن هذه المسألة مما يقبل الخلاف، فإنك وإن كنت ترى أن تحديد الفائدة مقدماً أفضلُ من عدم تحديدها، إلا أن مبلغ علمنا أنك لا ترى حرمة إيداع المسلم لماله في مصرف من المصارف الإسلامية التي تتعامل بنظام المضاربة الإسلامية، وإذا كان الأمر كذلك، فقد اتفقت أنت ومخالفوك على إباحة أحد النوعين، واختلفتم على إباحة النوع الآخر، أفلا يكون مقتضى الورع وترك الشبهات أن يُنصح الناس - خروجاً من الخلاف - بأن يكتفوا بالتعامل مع المصارف الإسلامية التي وقع الاتفاق على جواز التعامل معها وترك الأخرى التي وقع الخلاف بشأنها.
عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) [أخرجه الترمذي: 2518، والنسائي: 8/327، من حديث الحسن بن علي].
وما ضر لو نهجت نهج أئمتنا الكرام الذين كانوا يتحاشون إطلاق القول بالتحريم والتحليل خوفاً من الوقوع في محظور القول على الله بغير علم.
فقد كان الإمام أحمد رحمه الله يقول في الأمر يرى تحريمه: (أكرهه)، أو يقول: (لا يعجبني)، وإنما كان يقول ذلك تورعاً عن إطلاق لفظ التحريم - على ما بينه الإمام ابن القيم وذكر أمثلة له [في إعلام الموقعين: 1/72] -
وكان الإمام مالك رحمه الله يقول - إذا اجتهد في أمر سئل فيه - : (إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين) [إعلام الموقعين: 1/77].
وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: (لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحداً اقتُدي به يقول في شيء؛ هذا حلال وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون؛ نكره كذا، ونرى هذا حسناً، ونتقي هذا، ولا نرى هذا) [المصدر السابق: 1/71].
ورحم الله شيخ المالكية سحنون بن سعيد الذي كان يقول - كما في "أدب الفتوى" لابن الصلاح - : (أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره، قال؛ ففكرت فيمن باع آخرته بدنيا غيره، فوجدته المفتي يأتيه الرجل قد حنث في امرأته ورقيقته فيقول له؛ لا شيء عليك، فيذهب الحانث فيتمتع بامرأته ورقيقته، وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا) [أدب الفتوى: ص 38].
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر مضلات الفتن، واهدنا بفضلك سبل السلام... آمين
وقد حرص شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي على أن يعلن بنفسه هذه الفتوى في مؤتمر صحفي [بحسب ما ذكرت صحف القاهرة الصادرة في يوم الخميس الثامن من شوال/14123 هـ]، ومن المعلوم أن الشيخ طنطاوي كان يتبنى هذا الرأي منذ أن كان مفتياً للجمهورية، وقد كان يخالف في ذلك رأيَ شيخ الأزهر السابق الشيخ جاد الحق على جاد الحق.
والذي كان "مجمع البحوث" في عهده متمسكاً بالقرار [الذي صدر عنه في دورته الثانية عام 1385ه - 1965م]، والقاضي بأن: (الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي... وأن الحسابات ذات الأجل وفتح الاعتماد بفائدة وسائر أنواع الإقراض نظير فائدة كلها من المعاملات الربوية وهي محرمة).
الجديد في الأمر؛ أن الفتوى قد جاءت هذه المرة مبنية على أن المصرف إنما هو وكيل عن المتعاملين في استثمار أموالهم مقابل ربح يصرف لهم ويحدد مقدما في مدد يتفق مع المتعاملين معه عليها، بينما كانت فتاوى الشيخ طنطاوي السابقة تعتمد على أن هذه المعاملة نوع من المضاربة، وإن اتفقت الفتويان في أن تحديد الربح مقدماً ليس بحرام بل هو حلال لا شبهة فيه؛ لأنه واقع بتراضي الطرفين وليس في النصوص الشرعية ما يحرمه.
وكررت الفتوى الجديدة ما كان يردده الشيخ طنطاوي من أن البنوك عندما تحدد للمتعاملين معها هذه الأرباح مقدماً: (إنما تحددها بعد دراسة دقيقة لأحوال الأسواق العالمية والمحلية وللأوضاع الاقتصادية في المجتمع ولظروف كل معاملة ولنوعها ولمتوسط أرباحها، وأن تحديد الربح مقدما فيه فائدة للطرفين فالعميل يعرف حقه معرفة خالية من الجهالة، وفيه منفعة للقائمين علي إدارة هذه البنوك لأن هذا التحديد يجعلهم يجتهدون في عملهم وفي نشاطهم حتى يحققوا ما يزيد علي الربح الذي حددوه لصاحب المال، وحتى يكون الفائض بعد صرفهم لأصحاب الأموال حقوقهم حقا خالصا لهم في مقابل جدهم ونشاطهم).
والحق؛ أن الإنسان ليعجب من إصرار الشيخ طنطاوي على موقفه هذا مع مخالفته لما أجمعت عليه المجامع الفقهية المعتبرة في العالم الإسلامي، من اعتبار تلك الفوائد من قبيل الربا المحرم، ومن ذلك ما سبقت الإشارة إليه من مقررات "مجمع البحوث الإسلامية".
كما أصدر "مجمع الفقه الإسلامي" المنبثق عن "منظمة المؤتمر الإسلامي" في دور انعقاده الثاني [سنة 1406 هـ] قراراً بشأن التعامل مع التعامل المصرفي بالفوائد يتضمن أن: (كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة أو الفائدة على القرض منذ بداية العقد هاتان الصورتان محرمتان شرعاً).
وكذا ناقش "مجلس المجمع الفقهي" ب "رابطة العالم الإسلامي" بدورته التاسعة [عام 1406 هـ] هذا الموضوع، وانتهى إلى حرمة الفوائد الربوية، مبيناً أن المؤتمرات والندوات الاقتصادية التي عقدت في أكثر من بلد إسلامي؛ قررت حرمة تلك الفوائد بالإجماع، وأثبتت إمكان قيام بدائل شرعية عن البنوك والمؤسسات القائمة على الربا.
وعليه فقد قرر المجلس أنه: (يجب على المسلمين كافة أن ينتهوا عما نهى الله عنه من التعامل بالربا أخذاً وعطاءً، والمعاونة عليه بأي صورة من الصور حتى لا يحل بهم عذاب الله، ولا يأذنوا بحرب من الله ورسوله، كما قرر المجمع أنه ينظر بعين الارتياح والرضا إلى قيام المصارف الإسلامية التي هي البديل الشرعي للمصارف الربوية... ويدعو المجلس المسلمين في كل مكان إلى مساندة هذه المصارف وشد أزرها وعدم الاستماع إلى الشائعات المغرضة التي تحاول التشويش عليها وتشويه صورتها بغير حق).
بل إن شيخ الأزهر - وهو رئيس "مجمع البحوث الإسلامية" - قد تجاهل - طبقاً لما ذكرت "جريدة الأسبوع" في عددها الصادر في الخامس من شوال/1423هـ نقلاً عن مصادرها بالمجمع – تجاهل "اللجنة الفقهية" المختصة ببحث هذه القضية، والمكونة من الدكتور محمد رأفت عثمان أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، والدكتور عبد الفتاح الشيخ رئيس جامعة الأزهر السابق، والدكتور محمد حامد جامع وكيل الأزهر السابق.
كما اكتفى شيخ الأزهر بدعوة ثلاثة وعشرين عضواً فقط من أعضاء المجمع للاجتماع من أجل إصدار هذه الفتوى، وافق عليها منهم عشرون عضواً فقط، في حين يشترط قانون الأزهر موافقة المجمع على الفتاوى بأغلبية أعضائه الخمسين، وهذا يعني أن هذه الفتوى لا يمكن أن تكون ممثلة لرأي المجمع الذي صدرت باسمه، وإنما هي تعبر فقط عن رأي شيخ الأزهر وهؤلاء الذين لفوا لفه وارتضوا طريقته.
وقد رأيت من باب بيان الحق والنصح للمسلمين؛ أن أقف وقفات يسيرة مع هذه الفتوى الجديدة، مبيناً - باختصار وقدر الطاقة - ما تحويه من المخالفة للأصول الشرعية المعتمدة.
فأقول - وبالله التوفيق -:
أولاً؛ ليست هذه وكالة:
إننا نقول؛ إنه لا يمكن - والله أعلم - اعتبار العلاقة بين العميل والبنك علاقة وكالة شرعية.
وذلك لأن العقد الذي يكون بين البنك والعميل؛ لا ينص على أن العميل قد وكل البنك في استثمار أمواله نظير كذا من المال، وإنما ينص؛ على أنه قد سلم للبنك مبلغ كذا على أن يرده له بفائدة سنوية قدرها كذا، فأي وكالة في هذا؟
ثم إن البنك يتملك هذه النقود ويتصرف فيها كيفما شاء، ولو تلفت فإنه مسؤول عنها، بينما يد الوكيل في الفقه الإسلامي؛ يد أمانة، بمعنى أنه إن تلف منه المال دون تفريط ولا مخالفة لموكله فإنه ليس مسؤولاً عن رده.
وعقد الوكالة؛ يقتضي أن يكون المال المستثمر وما ينتج عنه من ربح من حق صاحب المال وحده، وليس للوكيل إلا ما اتفق عليه من أجر إن كان قد تم الاتفاق على أجر - لأن الوكالة تصح بأجر وبدون أجر -
وفي الحديث؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطى عروة بن أبي الجعد البارقي ديناراً يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار فجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه [أخرجه البخاري: 3642، وأبو داود: 3384، والترمذي: 1258، وابن ماجه: 2402، من حديث عروة البارقي].
فقد جاء عروة بأصل المال والربح إلى الموكِّل - وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وفي كتاب "الإجماع" لابن المنذر [ص: 160]: (وأجمعوا على أن الرجل إذا وكل الرجل بقبض دين له على آخر فأبرأ الوكيل الغريم من الدين الذي عليه، أن ذلك غير جائز؛ لأنه لا يملكه، ولا فرق بين هذا وبين ثمن السلعة للموكل على المشتري) أهـ.
والذي يحدث في المعاملات البنكية عكس هذا الذي ذكرناه، فالبنك هو الذي يحصل علي كل العائد من استثمار المال؛ إن كان ثمة استثمار - لأنه في الحقيقة لا يستثمر كما سيأتي - ولا يعطي لصاحب المال إلا القدر الضئيل الذي يحدد من طرف واحد وهو البنك.
ثانياً؛ ليس البنك جهة استثمار:
إن القول بأن البنك وكيل عن العميل في استثمار ماله، معناه؛ أن وظيفة البنك هي القيام باستثمار الأموال التي يودعها لديه العملاء.
وهذا ينم عن جهل - أو تجاهل - لطبيعة البنوك التجارية وطريقة عملها، وكل من له إلمام بدراسة البنوك؛ يعلم أن الحقيقة غير ذلك، وبمراجعة سريعة لأي من الكتب التي تعنى بدراسة النقود والبنوك مما يدرس في كليات التجارة والاقتصاد؛ يمكن معرفة الدور الرئيس لهذه البنوك، ألا وهو التجارة في الديون، فهي تقترض من العملاء مالاً بفائدة ربوية، ثم تقرضه بفائدة أعلى، ومن الفارق بين النسبتين تأتي أرباح البنوك الضخمة.
يقول الدكتور محمد زكي شافعي في كتابه "مقدمة في النقود والبنوك": (يمكن تلخيص أعمال البنوك التجارية في عبارة واحدة؛ هي التعامل في الائتمان أو الاتجار في الديون، إذ ينحصر النشاط الجوهري للبنوك في الاستعداد لمبادلة تعهداتها بالدفع لدى الطلب بديون الآخرين سواء كانوا أفراداً أم مشروعات أم حكومات).
أما المهمات الاستثمارية؛ فإن ما تقوم به البنوك التجارية منها هو شيء ضئيل جداً قد لا تتعدى نسبته نصف بالمئة من إجمالي المال المودع لديها - على ما بينه الدكتور على السالوس بالوثائق والأرقام في ردوده القيمة على فتاوى الشيخ طنطاوي بهذا الخصوص [يراجع كتابه "الاقتصاد الإسلامي والقضايا الفقهية المعاصرة": 1/100، وما بعدها] -
بل إن البنوك الربوية تقوم بما يسميه علم النقود والبنوك ب "مهمة خلق الائتمان"، أي إقراض نقود لا وجود لها في الحقيقة، فهي تقرض أكثر مما لديها من ودائع.
وذلك مثل ما يحدث في ما يسمى بفتح الاعتماد، وهو عقد يلتزم البنك بمقتضاه بوضع مبلغ معين تحت تصرف العميل خلال مدة معينة، وللعميل الحق في سحب هذا المبلغ أو بعضه خلال المدة المذكورة، وقد يحدث أن لا يسحب العميل المبلغ أو جانباً كبيراً منه، ومع ذلك فهو ملتزم بدفع عمولة معينة، تستحق غالباً بمجرد إبرام عقد فتح الاعتماد.
ثالثاً؛ ودائع البنوك قرض شرعاً وقانوناً:
إن التوصيف الفقهي الصحيح لما يضعه العملاء لدى البنوك من أموال؛ أنه قرض يجري عليه ما يجري على القرض من عدم جواز اشتراط الزيادة عليه، وذلك لأن هذا المال يدخل في ملكية البنك منذ إيداعه فيه، وله أن يتصرف فيه كما يشاء، وهو متعهد برد مثله لا عينه، وهو ضامن لهذا المال في حال تلفه أو ضياعه وإنْ كان ذلك بلا تفريط منه، وهذه هي طبيعة القرض كما حددها الفقه الإسلامي.
هذا إضافة إلى أن القوانين التي تحكم عمل تلك البنوك القانونية والتي يتم التحاكم إليها عند الاختلاف؛ تعتبره قرضاً أيضاً.
فقد نصت [المادة: 726] من القانون المدني المصري على أنه: (إذا كانت الوديعة مبلغاً من النقود، أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال وكان المودع عنده مأذوناً له في استعماله اعتبر العقد قرضاً).
وعلى ذلك؛ فكل زيادة مشترطة على هذا القرض فهي من قبيل الربا المحرم، ولا يُصيِّرُها حلالاً أن تكون قد تمت بتراضي الطرفين، لأن تراضيهما لا يحيل الحرام حلالاً، وكم من معاملة حرمها الإسلام مع أنها قد تتم بتراضي الطرفين، فالزنا حرام وإن تم برضا الطرفين، والميسر حرام وإن تراضى عليه الطرفان، وربا الفضل حرام ولو تراضى عليه الطرفان.
وفي الحديث؛ أن بلالاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر بَرْني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (من أين هذا؟)، قال بلال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (أوَّهْ، أوَّهْ، عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به) [أخرجه البخاري: 2312، ومسلم: 1594، والنسائي: 7/273، من حديث أبي سعيد الخدري].
رابعاً؛ حقيقة الدراسات الدقيقة لدى البنوك:
كرر شيخ الأزهر - في معرض دفاعه عن تحديد مقدار الفائدة مقدماً - ما قاله قبل ذلك مراراً، من أن نسبة الفوائد التي تحددها البنوك لا تأتي اعتباطاً، وإنما تحدد بعد دراسة دقيقة لأحوال الأسواق العالمية والمحلية وللأوضاع الاقتصادية في المجتمع ولظروف كل معاملة ولنوعها ولمتوسط أرباحها.
ومع أن هذا القول قد أصبح غير ذي موضوع بعدما بيناه من أن إيداع الأموال في البنوك الربوية إنما هو من قبيل القرض الذي لا تجوز الزيادة فيه، إلا أني أرى من المناسب أن أقف قليلاًً عند هذه المقولة أيضاً.
وذلك أن هذا التحديد الذي يراه شيخ الأزهر دقيقاً؛ ليس مبنياً على دراسة لمشروعات استثمارية يقوم بها البنك، فالبنك لا يهتم بالاستثمار - كما أسلفنا - وإنما هو يهتم بإقراض ما أقترضه، ولا شك أنه يقوم بدراسة السوق من هذه الوجهة ومعرفة الاحتمالات الممكنة، وهو يحاول دائماً أن يحقق لنفسه أعلى عائد ممكن، وهو يحتاط لنفسه فلا يقدم على أمر إلا بعد ضمان مكسبه فيه، ولذا فإن البنوك التجارية تميل في أوقات الرخاء إلى التوسع في الإقراض بفتح الاعتمادات التي تربو على رصيدها أضعافاً مضاعفة، بينما تميل في أوقات الركود إلى التضييق في الإقراض أو الكف عنه - كما يذكر صاحب "كتاب الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية" [ص: 315] -
ثم نقول؛ إن هذه الحسابات الدقيقة التي يتحدث عنها شيخ الأزهر لم تحل دون وقوع الخسائر في البنوك وانهيارها وضياع أموال المودعين، كما حدث في انهيار "بنك الاعتماد" وغيره.
وقد أثبت الاقتصاديون الغربيون أن هذا القبض والبسط الذي تتبعه البنوك التجارية؛ من أهم أسباب حدوث الأزمات الاقتصادية في العالم.
ومن ذلك ما قاله الاقتصادي الأمريكي "هنري سيمنز" معلقاً على الكساد الذي اجتاح العالم عام 1929: (لسنا نبالغ إذا قلنا إن أكبر عامل في الأزمة الحاضرة هو النشاط المصرفي التجاري بما يعمد إليه من إسراف خبيث أو تقتير مذموم في تهيئة وسائل التداول النقدي، ولا نشك في أن البنوك – بمعاونة الاحتكار - سوف توالينا بأزمات أشد وأقسى إذا لم تتدخل الدولة في الأمر...) [انظر "الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية"، لعمر بن عبد العزيز المدرك: ص 315].
خامساً؛ أين الورع والبعد عن الشبهات؟
كثرت في فتاوى الشيخ طنطاوي، وخصوصاً في الموضوع الذي نحن بصدده؛ عبارات التأكيد التي لا تناسب الحديث في أمر مختلف فيه - بل لا يكاد يوافقه على قوله فيه أحد من أهل العلم الذين يعتد بخلافهم - وذلك كقوله: (حلال لا شبهة فيه)، أو قوله: (حلال، حلال، حلال).
وإني لأسأل شيخ الأزهر؛ كيف يكون التعامل مع هذه البنوك أمراً لا شبهة فيه، وقد خالفتَ فيه أعضاء المجامع الفقهية التي أشرنا إليها وغيرهم من أهل العلم الذين ردوا عليك وبينوا بطلان فتواك؟ أفلا تشعرك هذه المخالفة بأن في الأمر شبهة؟ إن لم نقل تشعرك بخطئك وتحملك على التفكير في التراجع عنه؟
ثم بفرض أن هذه المسألة مما يقبل الخلاف، فإنك وإن كنت ترى أن تحديد الفائدة مقدماً أفضلُ من عدم تحديدها، إلا أن مبلغ علمنا أنك لا ترى حرمة إيداع المسلم لماله في مصرف من المصارف الإسلامية التي تتعامل بنظام المضاربة الإسلامية، وإذا كان الأمر كذلك، فقد اتفقت أنت ومخالفوك على إباحة أحد النوعين، واختلفتم على إباحة النوع الآخر، أفلا يكون مقتضى الورع وترك الشبهات أن يُنصح الناس - خروجاً من الخلاف - بأن يكتفوا بالتعامل مع المصارف الإسلامية التي وقع الاتفاق على جواز التعامل معها وترك الأخرى التي وقع الخلاف بشأنها.
عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) [أخرجه الترمذي: 2518، والنسائي: 8/327، من حديث الحسن بن علي].
وما ضر لو نهجت نهج أئمتنا الكرام الذين كانوا يتحاشون إطلاق القول بالتحريم والتحليل خوفاً من الوقوع في محظور القول على الله بغير علم.
فقد كان الإمام أحمد رحمه الله يقول في الأمر يرى تحريمه: (أكرهه)، أو يقول: (لا يعجبني)، وإنما كان يقول ذلك تورعاً عن إطلاق لفظ التحريم - على ما بينه الإمام ابن القيم وذكر أمثلة له [في إعلام الموقعين: 1/72] -
وكان الإمام مالك رحمه الله يقول - إذا اجتهد في أمر سئل فيه - : (إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين) [إعلام الموقعين: 1/77].
وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: (لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحداً اقتُدي به يقول في شيء؛ هذا حلال وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون؛ نكره كذا، ونرى هذا حسناً، ونتقي هذا، ولا نرى هذا) [المصدر السابق: 1/71].
ورحم الله شيخ المالكية سحنون بن سعيد الذي كان يقول - كما في "أدب الفتوى" لابن الصلاح - : (أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره، قال؛ ففكرت فيمن باع آخرته بدنيا غيره، فوجدته المفتي يأتيه الرجل قد حنث في امرأته ورقيقته فيقول له؛ لا شيء عليك، فيذهب الحانث فيتمتع بامرأته ورقيقته، وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا) [أدب الفتوى: ص 38].
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر مضلات الفتن، واهدنا بفضلك سبل السلام... آمين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
0 التعليقات :
إضغط هنا لإضافة تعليق
إرسال تعليق
Blogger Widgets