بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فهذه رسالة مختصر عن حكم قصر المسافر خلف المقيم.
أولاً: صورة المسألة.
رجل مسافر دخل مع مقيم في صلاة رباعية، هل يتم صلاته؟ أو يقصر ؟
ثانيا: المذاهب في المسألة.
المذهب الأول: أنه يصلي بصلاة المقيم، فيصليها أربعاً سواء أدرك الصلاة كلها أو بعضها، وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، وذكروه عن ابن عباس -وفيه نظر - وابن عمر ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
المذهب الثاني: أنه إذا أدرك ركعة فأكثر فإنه يتم صلاته، فإن لم يدرك إلا أقل من ركعة فإنه يقصر، وهذا مذهب مالك وأحمد في رواية، وهو قول الحسن والزهري والنخعي وقتادة، واختاره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
المذهب الثالث: أنه إذا أدرك ركعتين اكتفى بهما، وهذا مذهب تميم بن حذلم وطاوس والشعبي .
المذهب الرابع: أنه يقصر مطلقاً سواء أدرك الصلاة كلها أو بعضها، وهو مذهب إسحاق بن راهويه، ونصره ابن حزم الظاهري .
الأدلة:
أدلة المذهب الأول:
ما روي عن ابن عباس ، أنه قيل له: ( ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد ، وأربعا إذا ائتم بمقيم ؟ فقال: تلك السنة ) رواه أحمد وغيره، وقوله: السنة ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولأنه فعل ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ولا مخالف لهما من الصحابة.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ) ومفارقة إمامه اختلاف عليه، فلم يجز مع إمكان متابعته.
أدلة المذهب الثاني:
أدلتهم في الإتمام إذا أدرك أكثر من ركعة هي أدلة المذهب الأول.
أما دليلهم على أنه إذا أدرك أقل من ركعة فإنه يقصر فقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة )، فإذا أدرك أكثر من ركعة لزمه صلاة المقيم، وإن أدرك أقل من ركعة فإنه لم يدرك صلاة المقيم فلا يلزمه الإتمام.
أدلة المذهب الثالث:
تأتي إن شاء الله تعالى عند ذكر المذهب المختار ووجه اختياره.
أدلة المذهب الرابع:
ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ( أن الله تعالى فرض صلاة الحضر أربعاً وصلاة السفر ركعتين )، مع ما نقل من فعله صلى الله عليه في استمراره على قصر الصلاة في جميع أسفاره .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في السنن: ( إن الله قد وضع عن المسافر الصيام ونصف الصلاة) .
وغيرها من الأحاديث القولية والفعلية المتواترة في هذا الباب .
وهذه الأدلة تدل على أن المسافر إذا قصر صلاته خلف المقيم لا يطالب بدليل على قصره لها، لأنه صلى على الأصل، بل الذي يطالب بالدليل هو الذي يتم صلاته !.
الترجيح بين هذه المذاهب:
عند التأمل في النصوص والأحاديث الواردة في الباب يتضح أنه قد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله أن الأصل في صلاة السفر ركعتان، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم -وقد سافر أكثر من ثلاثين مرة- أنه أتم صلاته مطلقاً، ولانزاع بين أهل العلم في هذا، فمن قال بأن المسافر يقصر صلاته فقد قال بالأصل الذي دلت عليه الأدلة، و من قال بأن عليه الإتمام إذا صلى خلف المقيم فهو المطالب بالدليل، وعليه فإذا تبين ضعف الأدلة التي توجب الإتمام سلم لنا الأصل، وهذا بيان ذلك :
1- ما روي عن ابن عباس، أنه قيل له: ( ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد، وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة ) رواه أحمد وغيره .
قلت: الحديث هذا منكر ؛ وقد ذكره الفقهاء في كتبهم، ولم أجده بهذا اللفظ، وإنما روى الإمام أحمد (1/216) قال: (حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، ثنا أيوب، عن قتادة، عن موسى بن سلمة بن المحبّق قال: كنا مع ابن عباس بمكة، فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا، وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين، فقال: تلك سنة أبى القاسم صلى الله عليه وسلم)، وهذا اللفظ على أنه لا يدل على أن السنية هنا في الإتمام خلف الإمام فهو أيضاً غير محفوظ، بل انفرد به الطفاوي عن أيوب، وخولف في روايته عن أيوب، فقد رواه الطبراني من طريق عبيد الله بن عمر (المعجم الأوسط 4552 ) و الحارث بن عمير (المعجم الأوسط 6330)
كلاهما عن أيوب به بلفظ مخالف، و لفظ الحارث بن عمير (إنا كنا معكم، فخرجنا ورجعنا فصلينا ركعتين)، ولفظ عبيد الله بن عمر: (إنا نصلي معكم في المسجد، فإذا صلينا في رحالنا صلينا ركعتين، قال: تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم) .
كما خولف في لفظ الرواية عن قتادة، فقد روى الإمام أحمد (1/290) و مسلم (688) والنسائي (3/119) وابن خزيمة (2/73) وابن حبان (2755) والبيهقي (3/53) وغيرهم من طرق عن شعبة عن قتادة عن موسى بن سلمة بن المحبّق قال: (سألت ابن عباس :كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم).
وفي بعض الطرق عن شعبة عن قتادة: (قلت: أكون بمكة، فكيف أصلي ؟. قال: صل ركعتين، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم) .
ورواه عن قتادة:
1- سعيد بن أبي عروبة - عند أحمد (1/369) و مسلم (688)-
2- و هشام الدستوائي – عند أحمد (1/290) ومسلم (688)-
3- وهمام بن يحيى – عند أحمد (1/337)-
بألفاظ مقاربة لرواية شعبة عن قتادة .
وجميع ألفاظ الروايات الصحيحة لهذا الحديث ليس الكلام فيها على الإتمام، بل الكلام على القصر، فقول ابن عباس رضي الله عنهما: (تلك السنة) إنما عنى به القصر كما هو ظاهر.
2- أما أنه فعل ابن عباس وابن عمر ولا مخالف لهما ففيه نظر لأمرين:
الأول: أن الاحتجاج بقول الصحابة في مسألةٍ ما إنما يكون عند عدم وجود الدليل المرفوع، وقد ثبتت الأدلة المتواترة هنا في أن المسافر يقصر، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر أنهم لم يصلوا في سفرهم إلا ركعتين ركعتين.
الثاني: أننا قد بينا بطلانه عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد سبق، وروي عنه أنه سئل عن المسافر يصلي خلف المقيم فقال (يصلي بصلاته) إلا أنها من رواية ليث بن أبي سليم –وهو ضعيف-، وأما فعل ابن عمر رضي الله عنهما فهو صحيح عنه رواه مسلم من حديث نافع عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدراً من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعد أربعاً، فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً وإذا صلاها وحده صلى ركعتين ) والكلام على هذا الحديث من وجهين:
الأول: أن صلاته هنا هي في (منى) مع الإمام الأعظم، و(الخلاف شر) كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الباب.
الثاني: أن هذا فعل لابن عمر ليس قولاً، ولم ينه عن القصر، ومن المعلوم أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم -وهو المبلغ عن ربه – بمجرده لا يدل على الوجوب إلا بقرينة –كتفسير أمرٍ ونحوه-، فالصحابي من باب أولى .
ولكن قد روى البيهقي (3/157) من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن سليمان التيمي عن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: (المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم - يعني المقيمين - أتجزيه الركعتان أو يصلي بصلاتهم ؟ قال: - فضحك - وقال: يصلي بصلاتهم)، ورواه بنحوه ابن أبي شيبة (1/335) من طريق هشيم عن التيمي به، وهذا إسناد صحيح .
3- أما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ) ومفارقة إمامه اختلاف عليه ، فلم يجز مع إمكان متابعته.
فلا يصح هذا الاستدلال إلا على من أجاز القصر مطلقاً حتى لو أدرك أكثر من ركعتين، أما من قال بالقصر إذا أدرك ركعتين فأقل فلا يصح الاستدلال عليه بهذا لوجهين:
الوجه الأول: أن الاختلاف هنا اختلاف في النية لا في الأفعال، والمحظور اختلاف الأفعال، يدل عليه باقي الحديث (فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً )، وفي مسألتنا لا يوجد اختلاف في الأفعال، بل الاختلاف في النية .
الوجه الثاني: أن هذا منتقض بصلاة المتنفل بالمفترض –كصلاة معاذ رضي الله عنه العشاء بقومه وقد صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم -، ومنتقض بصلاة المفترض بالمتنفل كقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين (إذا صليتما في رحالكما ثم جئتما والإمام يصلي فصليا معه تكون لكما نافلة)، وقوله لأبي ذر (صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة)، فإن هذه الأحاديث تدل على أن اختلاف النية لا يؤثر في صحة الصلاة .
4- أما دليل من أجاز القصر للمسافر إذا أدرك أقل من ركعة وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة )، فإذا أدرك أكثر من ركعة لزمه صلاة المقيم، وإن أدرك أقل من ركعة فإنه لم يدرك صلاة المقيم فلا يلزمه الإتمام، فإنه لا يصح الاستدلال به؛ لأن المراد هنا إدراك الفضيلة كالوقت أو الجماعة، ولا يراد بذلك إدراك صفة صلاة الإمام ؛ لأنه ينتقض بما سبق بيانه من صحة جواز صلاة المتنفل خلف المفترض، وصلاة المفترض خلف المتنفل، وليس إدراك أحد من هؤلاء ركعة مع الإمام بناقل له من النفل إلى الفرض أو العكس، بل يبقى كل منهم على صلاته مع اختلاف نيتهم، بل وينتقض بما رواه مالك في الموطأ بأسانيد صحيحة عن سالم بن عبد الله عن أبيه، وعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، وعن زيد بن أسلم عن أبيه، كلهم عن عمر رضي الله عنه أنه صلى بأهل مكة وقال (يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفْر)، – وروي مرفوعاً بسند فيه ابن جدعان– ؛ فإنهم أدركوا معه أكثر من ركعة فلم يؤثر إدراكهم الركعة على نيتهم مع مخالفتهم نية الإمام.
5- أما استدلال من رأى القصر مطلقاً فيرده حديث ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً ) ؛ فإنه إذا أدرك معه أكثر من ركعتين فاكتفى بهما فقد اختلف على إمامه قطعاً، وهو منهي عنه بنص هذا الحديث، و النهي هذا للتحريم ؛ للوعيد الشديد الذي جاء في الأحاديث الأخرى على من خالف إمامه، بينما الصحيح في القصر أنه سنة مؤكدة من خالفها فقد أساء وصحت صلاته، والسنة تترك في مثل هذا الموضع ؛ لوجوب متابعة الإمام، إلا إذا وجد دليل يجيز مخالفة المأموم للإمام – ولا أعلم وجوده –، إلا في صلاة الخوف، ولا يصح القياس عليها ؛ لأنها خاصة في موضع الخوف وتخالف الصلوات في أمور متعددة.
فتبين مما سبق :
أن الصحيح – إن شاء الله تعالى – أن المسافر إذا أدرك ركعتين فأقل مع الإمام فإنه يقصر صلاته ؛ لأنه بهذا يوافق الأصل في صلاة المسافر، ولا يخالف أي نص، والاختلاف الحاصل بينه وبين إمامه هو اختلاف نية لا يضر، ويدرك الفضيلتين: فضيلة الجماعة، وفضيلة القصر، وإذا أدرك أكثر من ركعتين فإنه يصلي بصلاة الإمام ؛ لأنه لو قصر صلاته فإنه سيختلف على إمامه، وهو منهي عنه .
هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فهذه رسالة مختصر عن حكم قصر المسافر خلف المقيم.
أولاً: صورة المسألة.
رجل مسافر دخل مع مقيم في صلاة رباعية، هل يتم صلاته؟ أو يقصر ؟
ثانيا: المذاهب في المسألة.
المذهب الأول: أنه يصلي بصلاة المقيم، فيصليها أربعاً سواء أدرك الصلاة كلها أو بعضها، وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، وذكروه عن ابن عباس -وفيه نظر - وابن عمر ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
المذهب الثاني: أنه إذا أدرك ركعة فأكثر فإنه يتم صلاته، فإن لم يدرك إلا أقل من ركعة فإنه يقصر، وهذا مذهب مالك وأحمد في رواية، وهو قول الحسن والزهري والنخعي وقتادة، واختاره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
المذهب الثالث: أنه إذا أدرك ركعتين اكتفى بهما، وهذا مذهب تميم بن حذلم وطاوس والشعبي .
المذهب الرابع: أنه يقصر مطلقاً سواء أدرك الصلاة كلها أو بعضها، وهو مذهب إسحاق بن راهويه، ونصره ابن حزم الظاهري .
الأدلة:
أدلة المذهب الأول:
ما روي عن ابن عباس ، أنه قيل له: ( ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد ، وأربعا إذا ائتم بمقيم ؟ فقال: تلك السنة ) رواه أحمد وغيره، وقوله: السنة ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولأنه فعل ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ولا مخالف لهما من الصحابة.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ) ومفارقة إمامه اختلاف عليه، فلم يجز مع إمكان متابعته.
أدلة المذهب الثاني:
أدلتهم في الإتمام إذا أدرك أكثر من ركعة هي أدلة المذهب الأول.
أما دليلهم على أنه إذا أدرك أقل من ركعة فإنه يقصر فقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة )، فإذا أدرك أكثر من ركعة لزمه صلاة المقيم، وإن أدرك أقل من ركعة فإنه لم يدرك صلاة المقيم فلا يلزمه الإتمام.
أدلة المذهب الثالث:
تأتي إن شاء الله تعالى عند ذكر المذهب المختار ووجه اختياره.
أدلة المذهب الرابع:
ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ( أن الله تعالى فرض صلاة الحضر أربعاً وصلاة السفر ركعتين )، مع ما نقل من فعله صلى الله عليه في استمراره على قصر الصلاة في جميع أسفاره .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في السنن: ( إن الله قد وضع عن المسافر الصيام ونصف الصلاة) .
وغيرها من الأحاديث القولية والفعلية المتواترة في هذا الباب .
وهذه الأدلة تدل على أن المسافر إذا قصر صلاته خلف المقيم لا يطالب بدليل على قصره لها، لأنه صلى على الأصل، بل الذي يطالب بالدليل هو الذي يتم صلاته !.
الترجيح بين هذه المذاهب:
عند التأمل في النصوص والأحاديث الواردة في الباب يتضح أنه قد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله أن الأصل في صلاة السفر ركعتان، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم -وقد سافر أكثر من ثلاثين مرة- أنه أتم صلاته مطلقاً، ولانزاع بين أهل العلم في هذا، فمن قال بأن المسافر يقصر صلاته فقد قال بالأصل الذي دلت عليه الأدلة، و من قال بأن عليه الإتمام إذا صلى خلف المقيم فهو المطالب بالدليل، وعليه فإذا تبين ضعف الأدلة التي توجب الإتمام سلم لنا الأصل، وهذا بيان ذلك :
1- ما روي عن ابن عباس، أنه قيل له: ( ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد، وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة ) رواه أحمد وغيره .
قلت: الحديث هذا منكر ؛ وقد ذكره الفقهاء في كتبهم، ولم أجده بهذا اللفظ، وإنما روى الإمام أحمد (1/216) قال: (حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، ثنا أيوب، عن قتادة، عن موسى بن سلمة بن المحبّق قال: كنا مع ابن عباس بمكة، فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا، وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين، فقال: تلك سنة أبى القاسم صلى الله عليه وسلم)، وهذا اللفظ على أنه لا يدل على أن السنية هنا في الإتمام خلف الإمام فهو أيضاً غير محفوظ، بل انفرد به الطفاوي عن أيوب، وخولف في روايته عن أيوب، فقد رواه الطبراني من طريق عبيد الله بن عمر (المعجم الأوسط 4552 ) و الحارث بن عمير (المعجم الأوسط 6330)
كلاهما عن أيوب به بلفظ مخالف، و لفظ الحارث بن عمير (إنا كنا معكم، فخرجنا ورجعنا فصلينا ركعتين)، ولفظ عبيد الله بن عمر: (إنا نصلي معكم في المسجد، فإذا صلينا في رحالنا صلينا ركعتين، قال: تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم) .
كما خولف في لفظ الرواية عن قتادة، فقد روى الإمام أحمد (1/290) و مسلم (688) والنسائي (3/119) وابن خزيمة (2/73) وابن حبان (2755) والبيهقي (3/53) وغيرهم من طرق عن شعبة عن قتادة عن موسى بن سلمة بن المحبّق قال: (سألت ابن عباس :كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم).
وفي بعض الطرق عن شعبة عن قتادة: (قلت: أكون بمكة، فكيف أصلي ؟. قال: صل ركعتين، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم) .
ورواه عن قتادة:
1- سعيد بن أبي عروبة - عند أحمد (1/369) و مسلم (688)-
2- و هشام الدستوائي – عند أحمد (1/290) ومسلم (688)-
3- وهمام بن يحيى – عند أحمد (1/337)-
بألفاظ مقاربة لرواية شعبة عن قتادة .
وجميع ألفاظ الروايات الصحيحة لهذا الحديث ليس الكلام فيها على الإتمام، بل الكلام على القصر، فقول ابن عباس رضي الله عنهما: (تلك السنة) إنما عنى به القصر كما هو ظاهر.
2- أما أنه فعل ابن عباس وابن عمر ولا مخالف لهما ففيه نظر لأمرين:
الأول: أن الاحتجاج بقول الصحابة في مسألةٍ ما إنما يكون عند عدم وجود الدليل المرفوع، وقد ثبتت الأدلة المتواترة هنا في أن المسافر يقصر، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر أنهم لم يصلوا في سفرهم إلا ركعتين ركعتين.
الثاني: أننا قد بينا بطلانه عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد سبق، وروي عنه أنه سئل عن المسافر يصلي خلف المقيم فقال (يصلي بصلاته) إلا أنها من رواية ليث بن أبي سليم –وهو ضعيف-، وأما فعل ابن عمر رضي الله عنهما فهو صحيح عنه رواه مسلم من حديث نافع عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدراً من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعد أربعاً، فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً وإذا صلاها وحده صلى ركعتين ) والكلام على هذا الحديث من وجهين:
الأول: أن صلاته هنا هي في (منى) مع الإمام الأعظم، و(الخلاف شر) كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الباب.
الثاني: أن هذا فعل لابن عمر ليس قولاً، ولم ينه عن القصر، ومن المعلوم أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم -وهو المبلغ عن ربه – بمجرده لا يدل على الوجوب إلا بقرينة –كتفسير أمرٍ ونحوه-، فالصحابي من باب أولى .
ولكن قد روى البيهقي (3/157) من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن سليمان التيمي عن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: (المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم - يعني المقيمين - أتجزيه الركعتان أو يصلي بصلاتهم ؟ قال: - فضحك - وقال: يصلي بصلاتهم)، ورواه بنحوه ابن أبي شيبة (1/335) من طريق هشيم عن التيمي به، وهذا إسناد صحيح .
3- أما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ) ومفارقة إمامه اختلاف عليه ، فلم يجز مع إمكان متابعته.
فلا يصح هذا الاستدلال إلا على من أجاز القصر مطلقاً حتى لو أدرك أكثر من ركعتين، أما من قال بالقصر إذا أدرك ركعتين فأقل فلا يصح الاستدلال عليه بهذا لوجهين:
الوجه الأول: أن الاختلاف هنا اختلاف في النية لا في الأفعال، والمحظور اختلاف الأفعال، يدل عليه باقي الحديث (فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً )، وفي مسألتنا لا يوجد اختلاف في الأفعال، بل الاختلاف في النية .
الوجه الثاني: أن هذا منتقض بصلاة المتنفل بالمفترض –كصلاة معاذ رضي الله عنه العشاء بقومه وقد صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم -، ومنتقض بصلاة المفترض بالمتنفل كقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين (إذا صليتما في رحالكما ثم جئتما والإمام يصلي فصليا معه تكون لكما نافلة)، وقوله لأبي ذر (صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة)، فإن هذه الأحاديث تدل على أن اختلاف النية لا يؤثر في صحة الصلاة .
4- أما دليل من أجاز القصر للمسافر إذا أدرك أقل من ركعة وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة )، فإذا أدرك أكثر من ركعة لزمه صلاة المقيم، وإن أدرك أقل من ركعة فإنه لم يدرك صلاة المقيم فلا يلزمه الإتمام، فإنه لا يصح الاستدلال به؛ لأن المراد هنا إدراك الفضيلة كالوقت أو الجماعة، ولا يراد بذلك إدراك صفة صلاة الإمام ؛ لأنه ينتقض بما سبق بيانه من صحة جواز صلاة المتنفل خلف المفترض، وصلاة المفترض خلف المتنفل، وليس إدراك أحد من هؤلاء ركعة مع الإمام بناقل له من النفل إلى الفرض أو العكس، بل يبقى كل منهم على صلاته مع اختلاف نيتهم، بل وينتقض بما رواه مالك في الموطأ بأسانيد صحيحة عن سالم بن عبد الله عن أبيه، وعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، وعن زيد بن أسلم عن أبيه، كلهم عن عمر رضي الله عنه أنه صلى بأهل مكة وقال (يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفْر)، – وروي مرفوعاً بسند فيه ابن جدعان– ؛ فإنهم أدركوا معه أكثر من ركعة فلم يؤثر إدراكهم الركعة على نيتهم مع مخالفتهم نية الإمام.
5- أما استدلال من رأى القصر مطلقاً فيرده حديث ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً ) ؛ فإنه إذا أدرك معه أكثر من ركعتين فاكتفى بهما فقد اختلف على إمامه قطعاً، وهو منهي عنه بنص هذا الحديث، و النهي هذا للتحريم ؛ للوعيد الشديد الذي جاء في الأحاديث الأخرى على من خالف إمامه، بينما الصحيح في القصر أنه سنة مؤكدة من خالفها فقد أساء وصحت صلاته، والسنة تترك في مثل هذا الموضع ؛ لوجوب متابعة الإمام، إلا إذا وجد دليل يجيز مخالفة المأموم للإمام – ولا أعلم وجوده –، إلا في صلاة الخوف، ولا يصح القياس عليها ؛ لأنها خاصة في موضع الخوف وتخالف الصلوات في أمور متعددة.
فتبين مما سبق :
أن الصحيح – إن شاء الله تعالى – أن المسافر إذا أدرك ركعتين فأقل مع الإمام فإنه يقصر صلاته ؛ لأنه بهذا يوافق الأصل في صلاة المسافر، ولا يخالف أي نص، والاختلاف الحاصل بينه وبين إمامه هو اختلاف نية لا يضر، ويدرك الفضيلتين: فضيلة الجماعة، وفضيلة القصر، وإذا أدرك أكثر من ركعتين فإنه يصلي بصلاة الإمام ؛ لأنه لو قصر صلاته فإنه سيختلف على إمامه، وهو منهي عنه .
هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
0 التعليقات :
إضغط هنا لإضافة تعليق
إرسال تعليق
Blogger Widgets