13 يناير 2014

نوافذ على عالم الجن




نوافذ على عالم الجن



للشيخ
أ. تركي بن مبارك بن عبد الله البنعلي
حفظه الله

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله القائل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)) [الذاريات], 1 والصلاة والسلام على من أُرسل (بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف: 9]. وعلى آله وصحبه الذين رفضوا الهون, وأبوا في الدين الدون, وعلى من سار على هديهم مهما تعاقبت السنون, أما بعد:
فكثير من الناس على شتى مراتبهم, وتفاوتٍ في العلم بينهم, يبحثون عن معرفة كل شيء عن عالم الجن, ويُنقبون عن كل نقير وقطمير في هذا الشأن, ولا يكادون أن يسمعوا عن شخص يتكلم عن الجان, إلا تبادروه بأبصارهم وارعوه الآذان! وما أن يجدوا كتاباً في إحدى المكتبات العامة أو الخاصة, إلا سارعوا لاقتنائه واستخلاص الخلاصة.
وإني على قلة إطلاعي, رأيت أن جُل ما كتب ليس له أدنى داعي, وأجود المكتوب في هذا المضمار, لم يتعد بضع مسائل وبعض الأخبار..
فرأيت أن أزيد في ذلك لبنة, مدعمة ببعض ما ورد في الكتاب والسنة, وأطرق بعض المسائل اليسيرة, فأحبرها في فقرات قصيرة, لعلي أن أفيد طلاب العلم والقراء, وأزيدهم من الإفادة والإثراء..
فإلى الخواص, وأهل الإخلاص, بادرت في قنص النوادر لا الفتات! وكتبت بأناملي ما نما لي من اللفتات..   

النافذة الأولى
بعض ما يتعلق بالجان, من مسائل الكفر والإيمان, والبدع والعصيان
أولاً: من الجن, الكافر والمؤمن:
إن الجن كبني البشر, من حيث الخير والشر, فمنهم مؤمن وكافر, بر وفاجر, كما قال الواحد الديان, على لسان الجان: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) [الجن: 11].
وقال الله تعالى: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)) [الجن].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أي: على مذاهب شتى, كما قال العلماء: منهم المسلم والمشرك والنصراني والسني والبدعيُّ".اهـ [مجموع الفتاوى 11/306].
وقال في موطن آخر: "أي: مذاهب شتى, مسلمون وكفار, وأهل سنة وأهل بدعة".اهـ [مجموع الفتاوى 19/39].
وقال أيضاً: "ففيهم –أي الجن- الكفار والفساق والعصاة, وفيهم من فيه عبادة ودين بنوع من قلة العلم كما في الإنس.
وكل نوع من الجن يميل إلى نظيره من الإنس؛ فاليهود مع اليهود, والنصارى مع النصارى, والمسلمون مع المسلمين, والفساق مع الفساق,2 وأهل الجهل والبدع مع أهل الجهل والبدع".اهـ [مجموعة الرسائل الكبرى 1/66, ومجموع الفتاوى 8/534].
وقال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)) [البقرة].
وسبب قول الملائكة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) هو كما ذكر بعض أهل العلم: أنه كان من الجن من يفسد في الأرض, وينتهك النفس والعرض..
عن أبي العالية رحمه الله قال: "خلق الله الملائكة يوم الأربعاء, وخلق الجن يوم الخميس, وخلق آدم يوم الجمعة؛ فكفر قوم من الجن, فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم, فكانت الدماء بينهم, وكان الفساد في الأرض".اهـ [انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/92].
وعن الحسن قال: "إن الجن كانوا يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء".اهـ [انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/92].
ثانياً: نواقض الدين, تشمل الثقلين:
إن نواقض الإسلام كثيرة جداً, حتى أوصلها بعضهم إلى أكثر من أربعمائة ناقض. [انظر كشاف الإقناع عن متن الإقناع للبهوتي 6/136-141].
قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: "ذكر أهل العلم نواقض الإسلام؛ وذكر بعضهم: أنها قريب من أربعمائة ناقض؛ ولكن: الذي أجمع عليه العلماء, هو ما ذكره شيخ الإسلام, وعلم الهداة الأعلام, الشيخ: محمد بن عبد الوهاب, من نواقض الإسلام, وأنها عشرة".اهـ [الدرر السنية 2/360].
فمن قارف أحد هذه النواقض سواء كان من الإنس أو الجان, فقد ارتد وخرج من دائرة الإيمان, ومن تلك النواقض التي عمت في عصرنا واشتهرت, وعظمت شريحة من يقارفها وانتشرت:
1- الحكم بغير ما أنزل الله:
إن من المتقرر شرعاً أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر بصورته التبديلية أو التشريعية أكبر مخرج من الملة.
لذلك فإن أهل الإيمان من الجن يتجنبون هذا الناقض الشهير, ولا يحكمون إلا بما أنزل اللطيف الخبير..
أخرج ابن عساكر عن أبي محمد الحسن بن أحمد بن محيميد الحمصي, حدثني بعض شيوخنا عن شيخ له: "أنه خرج في نزهة ومعه صاحب له, فبعثه في حاجة فأبطأ عليه فلم يره إلى الغد, فجاء إليه وهو ذهل العقل, فكلموه فلم يكلمهم إلا بعد الوقت, فقالوا له: ما شأنك وما قصتك؟ فقال: إني دخلت إلى بعض الخراب أبول فيه؛ فإذا حية, فقتلتها؛ فما هو إلا أن قتلتها حتى أخذني شيء فأنزلني في الأرض, واحتوشني جماعة فقالوا: هذا قتل فلاناً. فقالوا: نقتله. فقال بعضهم: امضوا به إلى الشيخ. فمضوا بي إليه؛ فإذا شيخ حسن الوجه, كبير اللحية أبيضها, فلما وقفنا قدّامه, قال: ما قصتكم؟ فقصوا عليه القصة, فقال: في أي صورة ظهر؟ قالوا: في حيّة. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا –ليلة الجن- يقول لنا (كذا): (ومن تصور منكم في صورة غير صورته فقُتل؛ فلا شيء على قاتله) خلّوه. فخلوني".اهـ [تاريخ دمشق 13/410]. وفي إسناد الأثر مجهولان.
فقد حكم هذا الجني بما بلغه عن المعصوم, ولم يحكم بدساتير الخصوم! كما يفعل بعض كفرة بني آدم, في حكمهم في المال والفرج والدم!
وهذه القصة لها نظائر عديدة, منها ما ذكره ابن حجر الهيتمي حيث قال: "ويؤيده ما ذكره شيخ الإسلام ابن حجر في أبناء العمران عن الثوري الأنصاري الهويّ المتوفى سنة إحدى وثمانمائة أنه خرج عليه ثعبان مهول فقتله فاحتمل فوراً من مكانه فأقام عند الجن إلى أن رفعوه لقاضيهم فادعى عليه وليّ المقتول فأنكر، فقال القاضي: على أيّ صورة كان المقتول؟ فقيل على صورة ثعبان فالتفت القاضي إلى من بجانبه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «من تزيا لكم فاقتلوه» فأمر القاضي بإطلاقه فرجعوا به إلى منزله".اهـ [الفتاوى الحديثية ص 15].
وأروي بإسنادي قصة نظيرة لهذه القصة, عن الشاه ولي الله عن الشاه أهل الله أنه قال: "كنت أقرأ القرآن في المسجد بعد صلاة الظهر, فرأيت حية صغيرة فقتلتها, فجاء رجلان فقالا: إن الملك يطلبك. –وظن الشيخ أن ملك الإنس يطلبه, وقد كان المغول يحكمون الهند حينئذ-, فقام الشيخ معهما وذهبا به إلى البرية, والشيخ يسير معهما وهو يحسب أن ملك الإنس خرج إلى الاصطياد وطلبه من الصحراء, ولم يزل يمشي معهما حتى رأى باباً في الأرض فدخل فيه فإذا هناك ملك الجن يحكم في الخصومات, فسلم الشيخ وجلس في ناحية المجلس, فلما فرغ الملك من القضايا طلب الشيخ, وبرز المدعي قائلاً: إن هذا قتل ابني, وأطلب القود منه, قال الشيخ أهل الله: إني لم أقتل أحداً, ثم بان أن المراد بقتل ولده هو ما قتله في صورة الحية, فأقر الشيخ بقتله, وكاد أن يُقتل قصاصاً بأمر الملك, لكن ظهر هناك في ذلك الحين صحابي جني وقرأ حديث: (من قتل في غير زيه فدمه هدر) فأبطل الملك دمه, لما سمع حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وأبلغوا الشاه أهل الله مأمنه".اهـ

2- مناصرة الكفار على المسلمين:
لقد أجمع العلماء الأعلام, أئمة الإسلام, على أن مناصرة الكفار على المسلمين من نواقض الإسلام, لذلك فلا يفعل هذا الفعل الشنيع, والأمر الوضيع, إلا شياطين الإنس والجان, من أهل الشرك والكفران!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الملائكة لا يعاونون الكفار على المعاصي ولا على قتال المسلمين, وإنما يعاونوهم على ذلك الشياطين".اهـ [انظر: مجموعة الرسائل الكبرى 1/163 وما بعدها].
ثالثاً: البدع والأهواء, تشمل الإنس والجن على السواء:
لقد أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، وقال: "صحيح على شرط مسلم", عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).
وكما أن هذا الحديث يشمل أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الإنس, فكذلك يشمل أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الجن, ففي الجن السني, وفي الجن البدعي, وفي الجن السلفي, وفي الجن الدعي! قال الله تعالى عن الجن: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)) [الجن].
عن السّدي رحمه الله قال: "الجن أهواء مثلكم: شيعة, ورافضة, ومرجئة, وقدرية".اهـ [أخرجه أبو الشيخ في العظمة 5/1688, وأحمد في الناسخ والمنسوخ, والسيوطي في الدر المنثور 6/274, وانظر: الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي ص70].
النافذة الثانية
بعض أحوال الجان, في الطلب والدعوة والبيان
أولاً: الجواب الفصل, على سؤال: هل بُعث في الجن أنبياء ورسل؟
اختلف أهل العلم والعمل, في مسألة: "هل بُعث في الجن أنبياء ورسل؟", فبعضهم قال: بعث الله في الجن أنبياء, وبعضهم قال: بل ليس في الجن إلا نذر وعلماء!
ولقد ذهب للقول الأول, وعليه –عندي- المعول: الإمام الضحاك رحمه الله, فقد أخرج الإمام ابن جرير رحمه الله في تفسيره 8/36 عن الضحاك أنه "سئل عن الجن: هل كان منهم من نبي قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام: 130].
يعني بذلك أن رسلاً من الإنس ورسلاً من الجن".اهـ
وهذا قول الإمام ابن حزم رحمه الله حيث قال: "لم يبعث إلى الجن نبي من الإنس ألبتة قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه ليس الجن قوم الإنس, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة). قال: وباليقين ندري أنهم قد أنذروا, وأفصح أنه كان لهم أنبياء منهم في قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)".اهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الأكثرون على أنه لا رسل فيهم؛ كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) [يوسف: 109].
وعن الحسن البصري, قال: "لم يبعث الله نبياً من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء". ذكره عنه طائفة؛ منهم: البغوي, وابن الجوزي, وقال قتادة: "ما نعلم أن الله أرسل رسولاً قط إلا من أهل القرى, لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العمور". رواه ابن أبي حاتم, وذكره طائفة".اهـ [النبوات ص396].
وقال الإمام السيوطي رحمه الله: "جمهور العلماء سلفاً وخلفاً على أنه لم يكن من الجن قط رسول ولا نبي, كذا روي عن ابن عباس ومجاهد والكلبي وأبي عبيد".اهـ [لقط المرجان ص39].
وقال الإمام السبكي رحمه الله: "لا شك أن الجن مكلفون من الأمم الماضية كما هم مكلفون في هذه الملة, والتكليف إنما يكون بسماعهم من رسول الله أو من صدق عنه, أما كون ذلك إنسياً أو جنياً؛ فلم يرد فيه دليل قاطع, وظاهر القرآن مع ما قاله الضحاك. والأكثرون على خلافه, وتحقيق ذلك مما لا فائدة فيه, ولا يترتب عليه خير, غير أننا نقطع بأنهم سمعوا ببعثة رسل الإنس بقوله تعالى: (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) [الأحقاف: 30], وظاهر هذا أنهم كانوا مؤمنين بشريعة موسى, والظاهر أن الشياطين الذين سخرهم الله لسليمان كانوا يأتمرون في الشرائع بقوله, وهو من أنبياء بني إسرائيل".اهـ
ثانياً: الجن, وطلبهم للعلم في كل فن:
إن عالم الجن كعالم الإنس, ففيهم الأمي كما أن فينا الأمي, وفيهم الذي يحسن القراءة والكتابة كما أن فينا من يحسن ذلك, ولقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأراني صادق من أصحابه –أي أصحاب الدسوقي- الكتاب الذي أرسله –أي بعد موته بزعمهم- فرأيته بخط الجن, وقد رأيت خط الجن غير مرة..".اهـ [مجموع الفتاوى 13/95].
وكذا فإن فيهم العامي وطالب العلم والعالم, كما أن فينا العامي وطالب العلم والعالم, ولقد جاء عن أبي الفضل الجوهري الواعظ, قال: "كنت أتردد على الخِلعي, فقمت في ليلة مقمرة ظننت الصبح؛ فإذا على باب مسجده فرس حسنة, فصعدت, فوجدت بين يديه شاباً لم ار أحسن منه يقرأ القرآن, فجلست أسمع إلى أن قرأ جزءاً, ثم قال الشيخ: آجرك الله. قال: نفعك الله. ثم نزل, فنزلت خلفه, فلما استوى على الفرس طارت به. فغُشي عليَّ, والقاضي يصيح بي: اصعد يا أبا الفضل. فصعدت, فقال: هذا من مؤمني الجنّ, يأتي في الأسبوع مرةً يقرأ جزءاً ويمضي".اهـ [سير أعلام النبلاء 19/76, وطبقات الشافعية الكبرى 5/254].
وعن أبي عمران التمّار, قال: "غدوت يوماً قبل الفجر إلى مجلس الحسن الجعدي, وإذا باب المسجد مغلق, ورجل يدعو, وقومٌ يؤمَّنون على دعائه. قال: فجلست حتى جاء المؤذن, فأذَّن وفتح باب المسجد, فدخلت؛ فإذا الحسن جالس وحده وجهه إلى القبلة, فجلست حتى صلَّى الصبح وتفرَّق الناس عنه, فقلت له: رأيتُ عجباً اليوم! فقال: وما الذي رأيت؟ قلتُ: جئتُ قبل الفجر وأنت تدعو وقومٌ يؤمَّنون على دعائك, ثم دخلت؛ فما رأيت في المسجد غيرك! فقال: أولئك جنٌّ من أهل نصيبين يشهدون معي ختمة القرآن كل ليلة جمعة, ثم ينصرفون".اهـ [أخرجه الدينوري في المجالسة برقم 396].
والمدابغي الشافعي كان في بيته جني يلازمه يستفيد منه في صورة قط, والشيخ لا يعلم, ولما علم به وطلب منه أن يأتيه بنقود خرج ولم يعد, وكان كثير من علماء المغرب يُعلمون الجن القرآن ويلقنوهم في الطريق.. [انظر: الحاوي في فتاوي الغماري 3/70].
وللشعراني كتاب اسمه: "كشف الران, عن أسئلة الجان", -وهو مطبوع-, ذكر في مقدمته أن الجن جاؤوه وسألوه عن نحو ثمانين مسألة من مسائل التوحيد, وطلبوا منه أن يجيبهم عليها؛ فألف هذا الكتاب تحقيقاً لرغبتهم.
ثالثاً: مختصر الحديث, في مسألة ورواية الجن للحديث:
لا شك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بُعث للثقلين معاً, وفي القرآن سورة كاملة باسم "سورة الجن", ولأجل ذلك فقد حمل الجن السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورووها لمن بعدهم كما فعل الإنس.
ولكن العلماء قد اختلفوا في الرواية عن الجن, فجوزها البعض, وردها البعض, واستأنس بها البعض –كما فعلنا نحن في الاستئناس برواية قتل الإنسي بالجني إن قتله في صورته, وإلا فلا-.
قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "واعلم أن الاستدلال بهذين ينبني على جواز الرواية عن الجن وقد روى عنهم الطبراني وابن عدي وغيرهما, لكن توقف في ذلك بعض الحفاظ بأن شَرْط الراوي العدالة والضبط، وكذا مدعي الصحبة شرطه العدالة والجن لا نعلم عدالتهم مع أنه ورد الإنذار بخروج شياطين يحدثون الناس انتهى. والتوقف متجه".اهـ [الفتاوى الحديثية ص 15].
وقد ذكر بعض الحفاظ أسماء رواة الجن في كتبهم, كما فعل خاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة", وقد ذكر منهم: " سليط, وشاصر, وخاضر, وحسا, ومسا, ولحقم, والأرقم, والأدرس, وحاصر".. إلخ
ولشيخ الصوفية أحمد الغماري المغربي كتاب بعنوان: "مسند الجن"!
وقد روينا حديثاً واحداً عن ملك الجان من طريق المفتي ضياء الحسين رحمه الله.

رابعاً: الجن والدعوة, إلى الهداية والصحوة:
إن الدعوة إلى الحق, ليست حكراً على البشر من دون الخلق! بل إن من الجن دعاة, وعلماء هداة..
أخرج الحاكم, وابن أبي الدنيا, والبيهقي في "الشعب" 5/425, وأبو نعيم في "الدلائل" ص63: قصة نضلة بن معاوية الأنصاري, وفيها: "فألجأ نضلة الغنيمة والسبي إلى سفح الجبل, ثم قام فأذن, فقال: الله أكبر الله أكبر. قال: ومجيب من الجبل يجيبه: كّبرت كبيراً يا نضلة. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال: كلمة الإخلاص يا نضلة. ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله. قال: هو الذي بشرنا به عيسى ابن مريم, وعلى رأس أمته تقوم الساعة. ثم قال: حي على الصلاة. قال: طوبى لمن مشى إليها, وواظب عليها. ثم قال: حي على الفلاح. قال: قد افلح من أجاب محمداً وهو البقاء لأمته. ثم قال: الله أكبر الله أكبر. قال: أخلصت الإخلاص يا نضلة؛ فحرم الله جسدك على النار. قال: فلما فرغ من أذانه, قمنا فقلنا: من أنت يرحمك الله؛ أملك أنت؟ أم ساكن من الجن؟ أم من عباد الله؟ أسمعنا صوتك, وأرنا شخصك؛ فإنا وفد الله ووفد رسوله, ووفد عمر بن الخطاب, قال: فانفلق الجبل عن هامة كالرجل أبيض الرأس واللحية, عليه طمران من صرف؛ فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقلنا: وعليك السلام ورحمة الله, من أنت؟ قال: أنا زريب بن برثملا وصي العبد الصالح عيسى ابن مريم, أسكنني هذا الجبل ودعا لي بطول البقاء إلى نزوله من السماء, فأما إذا فاتني لقي محمد؛ فأقرؤوا عمر مني السلام, وقولوا له: يا عمر سدد وقارب فقد دنا الأمر..".اهـ [وفي إسناده عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وتارة يأتون إلى من هو خالٍ في البرية وقد يكون ملكاً أو أميراً كبيراً, ويكون كافراً, وقد انقطع عن أصحابه وعطش وخاف الموت, فيأتيه في صورة إنسي ويسقيه ويدعوه إلى الإسلام ويتوبه, فيسلم على يديه ويتوبه ويطعمه, ويدله على الطريق, ويقول: من أنت؟ فيقول: أنا فلان, ويكون من مؤمني الجن".اهـ [مجموع الفتاوى 13/80].
خامساً: محاربة الجن المستقيم, لكل منهج بدعي سقيم:
إن إخواننا من الجن يحاربون البدع كما نحاربها, وينكرون الأهواء كما ننكرها, ومن أمثلة ذلك ما قاله أبو قاسم القشيري رحمه الله حين قال: "سمعت محمد بن الحسين, سمعت محمد بن علي الحافظ, سمعت أبا معاذ القزويني, سمعت أبا علي الدلال, سمعت أبا عبد الله بن قهمان, سمعت إبراهيم الخواص يقول: انتهيت إلى رجل وقد صرعه الشيطان, فجعلت أؤذن في أذنه, فناداني الشيطان من جوفه: دعني أقتله, فإنه يقول: القرآن مخلوق!".اهـ [الرسالة القشيرية 1/41-42].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "هذه الحكاية موافقة لأصول السنة, وقد ذكروا نحوها حكايات, واعترض في ذلك الغزالي وغيره بأن هذا استدلال بكلام الشياطين في أصول الدين, وذكر عن الإمام أحمد في ذلك حكاية باطلة ذكرها في "المنخول"؛ فقال: رُب رجل يعتقد الشيء دليلاً وليس بدليل كما يذكر.
وجواب هذا أن الجن فيهم المؤمن والكافر, كما دلَّ على ذلك القرآن, ويعرف ذلك بحال المصروع, ويعرف بأسباب قد يقضي بها أهل المعرفة, فإذا عرف أن الجني من أهل الإيمان كان هذا مثل ما قصه الله في القرآن من إيمان الجن بالقرآن, وكما في السيرة من أخبار الهواتف.
وإبراهيم الخوَّاص من أكبر الرجال الذين لهم خوارق؛ فله علمه بأن هذا الجني من المؤمنين لما ذكر هذه الحكاية على سبيل الذم لمن يقول بخلق القرآن".اهـ [الاستقامة 1/197].
النافذة الثالثة
الجان؛ وسنة المدافعة بين أهل الكفر وأهل الإيمان
إن الله تعالى قد سن سنناً نافعة, من بينها سنة المواجهة والمدافعة, بين أهل التوحيد, وأهل الشرك والتنديد.. بين أهل الإيمان, وأهل الزندقة والكفران, كما قال الله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة :251]. وقال الله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].
وإن حصر هذه السنة الماضية, والإرادة الجارية, في عالم الإنس فقط, من جملة التخرص المحض واللقط, بل هي في عالم الجان, كما هي في عالم الإنسان!
أولاً: القول المبين, في تقسيم الجن إلى معاهدين وحربيين:
كما أن في كفرة الإنس حربيين, يجوز قتلهم وقتالهم في كل حين, فإن في الجن حربيين كذلك, يتحينون الفرص لقتال الجن المؤمن السالك, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الجن الكفار كانوا يقاتلون الجن المؤمنين".اهـ  [مجموع الفتاوى 18/360].
ومن الجن من هو معاهد للمؤمنين, كما قد يفعل بعض كفرة الإنس مع الحاكم المسلم المحكم لشرع رب العالمين, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فنبينا صلى الله عليه وسلم هو مع الجن كما هو مع الإنس, والإنس معه إما مؤمن به, وإما مسلم له, وإما مسالم له, وإما خائف منه, كذلك الجن منهم المؤمن به, ومنهم المسلم له مع نفاق, ومنهم المعاهد المسالم لمؤمني الجن, ومنهم الحربي الخائف من المؤمنين".اهـ [النبوات ص397].
ثانياً: الجان؛ وجهاد أهل الكفران:
إن الجهاد له منزلة عالية, ومكانة في صدور المؤمنين غالية, ويكفي الجهاد منقبة, والقعود عنه مثلبة, أن الآيات والأحاديث المطهرة, جاءت في الجهاد والتحريض عليه بكثرة..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والأمر بالجهاد وذكر فضائله في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصر".اهـ [مجموع الفتاوى 28/352].
بل قال رحمه الله: "وذلك لأن أهم أمر الدين الصلاة والجهاد؛ ولهذا كانت أكثر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة والجهاد, وكان إذا عاد مريضاً يقول: (اللهم اشف عبدك, يشهد لك صلاة, وينكأ لك عدواً)3".اهـ [مجموع الفتاوى 28/261].
وقال أيضاً: "الكتاب له الصلاة, والحديد له الجهاد؛ ولهذا كان أكثر الآيات والأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في عيادة المريض: (اللهم اشف عبدك, يشهد لك صلاة, وينكأ لك عدواً)4, وقال عليه الصلاة والسلام: (رأس الأمر الإسلام, وعموده الصلاة, وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)5".اهـ [مجموع الفتاوى 35/36].
وهذا الفضل العظيم للجهاد, لا يتعلق بجنس واحد من العباد! بل هو للثقلين معاً, ولتحصيله من صالح الإنس والجن كل يسعى.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان سليمان عليه السلام رجلاً غزّاءً, يغزو البرّ والبحر, فسمع بملك في جزيرة من جزائر البحر, فركب سليمان الريح وجنوده من الجنِّ والإنس, حتى نزل تلك الجزيرة, فقتل ملكها وسبى من فيها..".اهـ [كتاب التوابين ص16].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والدلائل الدالة على هذا الأصل وما في الحديث والآثار من كون الجن يحجون ويصلون ويجاهدون وأنهم يعاقبون على الذنب كثيرة جداً".اهـ [مجموع الفتاوى 4/236].
وقال أيضاً: "أما طاعة الجن لنبينا وغيره من الرسل كموسى؛ فهذا نوع آخر, فإن هذا طاعتهم فيما أمرهم الله به من عبادته وطاعته كطاعة الإنس لنبينا, حيث أرسل إلى الطائفتين فدعاهم إلى عبادة الله وحده وطاعته ونهاهم عن معصيته التي بها يستحقون العذاب في الآخرة, وكذلك الرسل دعوهم إلى ذلك, وسليمان منهم؛ لكن هذا إنما ينتفع به منهم من آمن طوعاً, ومن لم يؤمن؛ فإنه يكون بحسب شريعة ذلك الرسول: هل يُترك حتى يكون الله هو الذي ينتقم منه أو يُجاهد؟".اهـ [مجموع الفتاوى 8/121, والجواب الصحيح 6/167-168].
فأهل الإيمان من الجن يجاهدون الكفار, ويتحصل بأيديهم عذاب أولئك والبوار, كما قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)) [التوبة].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والجن الذين يتبعون الصحابة يقاتلون كفار الجن".اهـ [مجموع الفتاوى 4/494].
وعلى العكس من حال هؤلاء الجن المؤمنين, فهناك من الجن مخذلون ومرجفون وهم الشياطين! قال الله تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أي: يخوفكم أولياؤه بما يقذف في قلوبكم من الوسوسة المرعبة؛ كشيطان الإنس الذي يخوف من العدو فيرجف ويخذل".اهـ [مجموع الفتاوى 17/524].
ثالثاً: بعض غزوات الجن المسلمين, للجن المشركين:
لا يستطيع إنسي أن يحصر غزوات الجن ويعدها, غير أنه يستطيع أن يشير إلى بعضها, مما جاء في هذا الصدد, ورُوي لنا بالسند.
كالذي أخرجه الإمام البيهقي 7/445-446 بسند صحيح عن أبي نضرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أن رجلاً من قومه من الأنصار خرج يصلي مع قومه العشاء, فسبته الجن, ففُقد, فانطلقت امرأته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فقصت عليه القصة, فسأل عنه عمر قومه, فقالوا: نعم, خرج يصلي العشاء ففُقد, فأمرها أن تتربص أربع سنين,6 فلما مضت الأربع سنين؛ أتته فأخبرته, فسأل قومها؟ فقالوا: نعم. فأمرها أن تتزوج, فتزوجت, فجاء زوجها يخاصم في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حياته! فقال له: إن لي عذراً يا أمير المؤمنين. فقال: وما عذرك؟ قال: خرجت أصلي العشاء, فسبتني الجن, فلبثتُ فيهم زماناً طويلاً, فغزاهم جن مؤمنون –أو قال: مسلمون. شك سعيد-, فقاتلوهم, فظهروا عليهم, فسبوا منهم سبايا, فسبوني فيما سبوا منهم, فقالوا: نراك رجلاً مسلماً ولا يحل لنا سبيك. فخيروني بين المقام وبين القفول إلى أهلي, فاخترت القفول إلى أهلي, فأقبلوا معي, أما بالليل؛ فليس يحدثوني, وأما بالنهار؛ فعصار ريح أتبعها. فقال له عمر رضي الله عنه: فما كان طعامك فيهم؟ قال: الفول, وما لم يذكر اسم الله عليه. قال: فما كان شرابك فيهم: قال: الجذف.7 قال: فخيره عمر بين الصداق وبين امرأته".اهـ
وإن من جهاد الجن البررة, أنهم يقتلون من يعتدي على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من الكفرة الفجرة, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد ذكروا أن الجن الذين آمنوا به –أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم- كانت تقصد من يسُبَّه من الجن الكفار فتقتله قبل الهجرة, وقبل الإذن في القتال له وللإنس, فيقرها على ذلك, ويشكر ذلك لها".اهـ [الاستقامة 1/196].
وقال سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه: حدثني محمد بن سعيد –يعني عمه-: قال محمد بن المُنكدر أنه ذكر له عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "هتف هاتف من الجن على جبل أبي قبيس, فقال:
قبَّحَ الله رأيَكُمْ آل فِهرٍ

ما أدقَّ العُقولَ والأحلام
 
حينَ تُغضي لمن يَعيبُ عليها

دينَ آبائِها الحُماةِ الكرامِ
 
حالفَ الجنّ جنَّ بُصرى عليكمْ

ورِجال النَّخيلِ والآطامِ
 
تُوشكُ الخيلُ تَروها نهاراً

تقتلُ القوم في حرامِ تهامِ
 
هل كريمٌ منكمْ له نفسُ حرٍّ

ماجدُ الجَدَّتينِ والأعمامِ
 
ضارباً ضربةً تكونُ نكالاً

وروَاحاً من كُربةٍ واغتنامِ
 
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فأصبح هذا الشعر حديثاً لأهل مكة, يتناشدوه بينهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا شيطان يكلم الناس في الأوثان يقال له: مسعر, والله مخزيه). فمكثوا ثلاثة أيام؛ فإذا هاتف يهتف على الجبل يقول:
نحنُ قتلنا في ثلاثٍ مسعرا

إذ سفَّه الحقَّ وسَنَّ المُنكرا
 
قَنَّعتُهُ سيفاً حُساماً مُبترا

بشَتْمِهِ نبيِّنا المُطَهرا
 
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا عفريت من الجن اسمه سَمحَج, آمن بي, سميته عبد الله, أخبرني أنه في طلبه منذ ثلاثة أيام) فقال علي رضي الله عنه: جزاه الله خيراً يا رسول الله".اهـ أخرجه الطبراني في الكبير, وأبو سعيد النقاش في فنون العجائب برقم (92), وأبو بكر الشافعي في الغيلانيات رقم 696, والشيرازي في الألقاب, والدارقطني في الأفراد, وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وقد روينا في الغيلانيات خبراً من حديث رجل منهم يقال له عبد الله بن سمحج, وفي إسناده غرابة".اهـ [الفصول ص247].
رابعاً: جبن كفرة الجن:
إن الكفار الأشقياء, من الإنس والجن على السواء, خوارون فرارون جبناء, لا يصمدون أمام جند الله الأتقياء.
قال الله تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 48].
"قال ابن جريج قال ابن عباس في هذه الآية: لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين، وألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبكم، وإني جار لكم. فلما التقوا، ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة، (نكص على عقبيه) قال: رجع مدبرا، وقال: (إني أرى ما لا ترون) الآية.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين، معه رايته، في صورة رجل من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم), فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس، فلما رآه -وكانت يده في يد رجل من المشركين- انتزع يده ثم ولى مدبرا هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب) وذلك حين رأى الملائكة.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس؛ أن إبليس خرج مع قريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فلما حضر القتال ورأى الملائكة، نكص على عقبيه، وقال: (إني بريء منكم) فتشبث الحارث بن هشام فنخر في وجهه، فخر صعقا، فقيل له: ويلك يا سراقة، على هذه الحال تخذلنا وتبرأ منا. فقال: (إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب)".اهـ [انظر: تفسير القرآن العظيم 2/395].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والشياطين إذا رأت ملائكة الله التي يؤيد بها عباده هربت منهم, والله يؤيد عباده المؤمنين بملائكته".اهـ8 [مجموع الفتاوى 11/238].
فالمؤمن لا يخاف من بطش الشياطين, مادام مستعصماً بشرع رب العالمين, ومن كبّر الله صَغَر من دونه أمامه وهان, وإن كان من مردة الجان! قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالتكبير شرع أيضاً لدفع العدو من شياطين الإنس والجن... فيحصل لهم مقصودان, مقصود العبادة بتكبير قلوبهم لله, ومقصود الاستعانة بانقياد سائر المطالب لكبريائه, ولهذا شرع التكبير على الهداية والرزق والنصر".اهـ [مجموع الفتاوى 24/229].
النافذة الرابعة
بين الجان والإنسان
لا شك أن الجن عالم كما أن الإنس عالم, وقد ذكرهم الله في مواطن عديدة من كتابه, وذكرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطابه.
غير أن الناس اضطربوا في شأنهم, واختلفوا في أمرهم, لا سيما فيما يتعلق بالعالمينِ معاً –عالم الإنس والجان-, فوجب التوضيح والبيان..
أولاً: هل يرى الجن الإنس, وهل يصح العكس؟
لاشك أن الجن يرون الإنس, ومن اللطائف قول الإمام محمد بن إدريس: "أصحاب العربية جن الإنس, يبصرون ما لا يبصر غيرهم!".اهـ [آداب الشافعي ومناقبه ص150].
وهذه الرؤية في كل الأحوال إلا إن استتر منهم الإنس, والستر كما جاء عند الترمذي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم، إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله).
ولكن هل يرى الإنسي الجني في صورته؟! قال الله تعالى عن الشيطان وذريته: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف: 27].
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "(قبيله) جنوده. قال مجاهد: يعني الجن والشياطين. ابن زيد: (قبيله) نسله. وقيل: جيله.
(مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) قال بعض العلماء: في هذا دليل على أن الجن لا يُرون; لقوله (من حيث لا ترونهم) وقيل: جائز أن يُروا; لأن الله تعالى إذا أراد أن يريهم كشف أجسامهم حتى تُرى".اهـ [الجامع لأحكام القرآن 4/165].
وكما ترى أيها القارئ أن أهل العلم قد اختلفوا في إمكانية رؤية الإنس للجن, وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إمكانية ذلك مع أن الأصل عدم الرؤية؛ حيث قال: "وهو –أي: إبليس- ونسله يرون بني آدم من حيث لا يرونهم, وأما آدم فقد رآه, وقد يرى الشياطين والجنَّ كثير من الإنس, لكن لهم من الاجتنان والاستتار ما ليس للإنس".اهـ [مجموع الفتاوى 17/509].
هذا إذا كانوا على خلقتهم الأصلية, أما إذا تشكلوا إلى صور وأشكال أخرى فرؤيتهم ممكنة ومتأتية –ولا أعلم خلافاً في ذلك-, قال النحاس رحمه الله: "لأن الله جل وعز خلقهم خلقا لا يرون فيه, وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم".اهـ [انظر: الجامع لأحكام القرآن 4/165].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ في جوف الليل فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: دعني فإني محتاج، فرحمته فخليت سبيله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما فعل أسيرك الليلة -أو قال- البارحة؟) فقلت: يا رسول الله! شكا حاجة وزعم أنه لا يعود فخليته، فقال: (أما أنه قد كذبك وسيعود) فعلمت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه سيعود) فجاء فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فشكا حاجة فخليت عنه، وأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما فعل أسيرك؟) فذكر مثل الأول، قال: فرصدته، فجاء فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقال: دعني حتى أعلمك كلمات ينصرك الله بهن، وكانوا أحرص شيء على الخير قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) فإنه لن يزال معك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما فعل أسيرك يا أبا هريرة؟) فأخبره. فقال: (صدقك وإنه لكاذب، تدري من تخاطب منذ ثلاث؟) قلت: لا. قال: (ذاك الشيطان) [أخرجه البخاري في صحيحه, وأختلف في وصله وتعليقه, ورواه النسائي موصولاً].
وهناك قصص متقاربة عن أبي بن كعب, وأبي أيوب.. [انظر: فتح الباري 4/616].
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فوائد الحديث: "وأنه –أي الشيطان أو الجني- قد يتصور ببعض الصور فتمكن رؤيته, وأن قوله تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) مخصوص بما إذا كان على صورته التي خلق عليها... وأن الجن يأكلون من طعام الإنس, وأنهم يظهرون للإنس لكن بالشرط المذكور".اهـ [فتح الباري 4/616-617].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها، وفي صور الإبل والبقر والغنم، والخيل والبغال والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بني آدم، كما أتى الشيطان قريشا في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لما أرادوا الخروج إلى بدر، قال تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّى جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)".اهـ [مجموع الفتاوى 19/44-45].
وقال أيضاً: "الكلب الأسود شيطان الكلاب, والجن تتصور بصورته كثيرا، وكذلك بصورة القط الأسود؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره وفيه قوة الحرارة".اهـ [مجموع الفتاوى 19/52].
وقال الإمام القرطبي رحمه الله: "وبلغنا في فضائل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مما حدثنا به أبو بكر بن طاهر الأشبيلي أن عمر بن عبد العزيز كان يمشي بأرض فلاة، فإذا بحية ميتة، فكفنها بفضلة من ردائه، ودفنها فإذا قائل يقول: يا سرق أشهد، لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لك: ستموت بأرض فلاة، فيكفِّنك ويدفنك رجل صالح، فقال: ومن أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا من الذين استمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يبق منهم إلا أنا وسرق وهذا سرق قد مات".اهـ
قلت: والأخبار في مثل ذلك أكثر من أن تحصر, وأشهر من أن تُذكر.
ويُشار هاهنا إلى: أنه من المتعارف عليه عند الناس, قوة الجن في الصراع والباس, لذلك فقد روي عن عمر بن حمزة أنه سئل: من أشجع الناس؟ فقال: "عمرو بن معد يكرب، والمهلب بن أبي صفرة, ومصعب بن الزبير", فقيل له: وعبد الله بن الزبير؟ فقال: "أنت سألتني عن الناس, هذا كنا نعده من الجان!", وقال عنترة العبسي:
لا أبعدَ اللهُ عن عيني غَطارِفَةً *** إنساً إذا نزلوا, جِنّاً إذا رَكِبوا
أُسودُ غابٍ ولكن لا نُيوبَ لهم *** إلا الأسنةُ والهنديةُ القُضُبُ!9
ومع ذلك فإن الجان, لا يصمدون أمام الإنس من أهل الإيمان, مهما تصوروا في صور وتشكلوا بأشكال وألوان! عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لقي رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً من الجن, فصارعه, فصرعه الإنسي, فقال له الجني: عاودني. فعاوده, فصرعه الإنسي, فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلاً شخيتاً, كأن ذُرَيعتَيْك ذُرَيعا كلب؛ أفكذلك أنتم معاشر الجن, أم أنت منهم كذا؟! قال: لا والله إني منهم لضليع, ولكن عاودني الثالثة, فإن صرعتني علمتك شيئاً ينفعك. قال: فعاوده, فصرعه؛ قال: هات علمني. قال: هل تقرأ آية الكرسي؟ قال: نعم. قال: فإنك لا تقرأها في بيت إلا خرج منه الشيطان, ثم لا يدخله حتى تصبح.
فقال رجل في القوم: يا أبا عبد الرحمن من ذاك الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ هو عمر؟ فقال: من يكون هو إلا عمر رضي الله عنه؟!".اهـ [أخرجه الدارمي في السنن 2/447, والدينوري في المجالسة برقم (2475), وابن أبي شيبة في المصنف 12/34, والبيهقي في دلائل النبوة 7/123, وغيرهم].
وروى أبو نعيم عن الأحنف بن قيس عن علي بن أبي طالب قال: "والله، لقد قاتل عمار بن ياسر الجن والإنس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقلنا: هذا الإنس قد قاتل، فكيف الجن؟! فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فقال لعمار: انطلق فاستق لنا من الماء فانطلق، فعرض له شيطان في صورة عبد أسود، فحال بينه وبين الماء فأخذه فصرعه عمار، فقال له: دعني وأخلي بينك وبين الماء ففعل ثم أبى، فأخذه عمار الثانية فصرعه، فقال له: دعني وأخلي بينك وبين الماء فتركه، فأبى، فصرعه، فقال له مثل ذلك فتركه فوفى له، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشيطان قد حال بين عمار وبين الماء، في صورة عبد أسود، وإن الله أظفر عمارا به) قال علي: فلقينا عمارا فقلت: ظفرت يداك يا أبا اليقظان، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كذا وكذا، قال: أما والله لو شعرت أنه الشيطان لقتلته، ولقد هممت أن أعض بأنفه، لولا نتن ريحه".اهـ
وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى وجود هذا الحديث في "طبقات ابن سعد" حيث فقال: "ذكر ابن سعد في "الطبقات" من طريق الحسن قال: قال عمار: نزلت منزلا فأخذت قربتي ودلوي لأستقي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سيأتيك من يمنعك من الماء، فلما كنت على رأس الماء، إذا رجل أسود كأنه مرس فصرعته، فذكر الحديث، وفيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ذاك الشيطان".اهـ [فتح الباري 14/240].
ثانياً: إثبات صرع الجن للإنس, بالدليل والحس:
لم يُنكر دخول الجني في بدن المصروع من الإنس إلا بعض من شذ من المتقدمين كالإمام ابن حزم رحمه الله في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" 5/83.. وكان دليله على ما ذهب إليه عدم وجود الدليل فيما يزعم رحمه الله.
وإلا من شذ من المعاصرين كالشيخ محمد الغزالي في كتابه: "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث", ولم يأت بدليل واحد يبين استحالة ذلك!
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إجماع أهل السنة والجماعة على إثبات دخول الجني في بدن المصروع من الإنس, وأن هذا من اعتقاداتهم, وأنه لم يخالف في ذلك إلا بعض المعتزلة, فقال رحمه الله: "وأنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي وأبي بكر الرازي وغيرهما, دخول الجن في بدن المصروع, ولم ينكروا وجود الجن؛ إذ لم يكن ظهور هذا من المنقول عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كظهور هذا, وإن كانوا مخطئين في ذلك, ولهذا ذكر الأشعري في "مقالات أهل السنة والجماعة" أنهم يقولون: إن الجن يدخل في بدن المصروع".اهـ [مجموع الفتاوى 19/12].
وقال رحمه الله في موطن آخر: "وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة".اهـ
وقال أيضاً: "وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره, ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك؛ فقد كذب على الشرع, وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك".اهـ [مجموع الفتاوى 24/277].
قال شيخ مشايخنا الألباني رحمه الله: "لقد أنكر بعض المعاصرين عقيدة مسّ الشيطان للإنسان مسّاً حقيقياً, ودخوله في بدن الإنسان وصرعه إيّاه, وألف بعضهم في ذلك بعض التأليفات, وموَّهوا فيها على الناس..".اهـ [تحريم آلات الطرب ص165].
ومن نظر في أدلة الكتاب والسنة ودقق النظر, علم أن القول بإمكانية دخول الجني في بدن المصروع صحيح ليس فيه نظر!
قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة: 275].
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "في هذه الآية دليلٌ على فساد إنكار من أنكر الصَّرع من جهة الجِنِّ, وزعم أنه من فِعل الطبائع, وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مَسٌّ, وقد مضى الردُّ عليهم فيما تقدَّم من هذا الكتاب".اهـ [الجامع لأحكام القرآن 4/391].
وقال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف: 201].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "(إذا مسهم) أي أصابهم (طَيْفٌ) وقرأ آخرون: (طائف) وقد جاء فيه حديث, وهما قراءتان مشهورتان، فقيل: بمعنى واحد. وقيل: بينهما فرق. ومنهم من فسر ذلك بالغضب, ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه..".اهـ [تفسير القرآن العظيم 2/350].
وعن أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدمَ مجرى الدَّم) [متفق عليه].
قال الإمام القرطبي رحمه الله في رده على المعتزلة: "وقد أنكر هذا الخبرَ كثيرٌ من الناس, وأحالُوا رُوحينِ في جَسد, والعقلُ لا يُحيل سُلُوكهم في الإنس, إذ كانت أجسامهم رقيقةً بسيطة على ما يقوله بعض الناس بل أكثرهم, ولو كانوا كِثافاً لصحَّ ذلك أيضاً منهم, كما يصحُّ دخولُ الطعام والشراب في الفراغ من الجسم, وكذلك الديدان قد تكونُ في بني آدم وهي أحياء".اهـ [الجامع لأحكام القرآن 2/282].
وقال الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "وبه يرد على من أنكر سلوكه في بدن الإنسان؛ كالمعتزلة".اهـ [الفتاوى الحديثية ص72].
وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني أُصرع وإني أتكشف فادع الله لي. قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة, وإن شئت دعوت الله أن يعافيك). فقالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف, فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها. [متفق عليه].
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله بعد أن ذكر طرقاً للحديث: "وقد يؤخذ من الطرق التي أوردتها أن الذي كان بأمّ زفر كان من صَرعِ الجن, لا من صرع الخلط".اهـ [فتح الباري 10/143].
وعن كعب بن عمرو قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من التردِّي والهدم, والغرق والحريق, وأعوذ بك أن يتخبَّطني الشيطان عند الموت, وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً, وأعوذ بك أن أموت لديغاً)". [أخرجه أبو داود والنسائي, وصححه الألباني].
قال القاضي رحمه الله: "أي من أن يمسني الشيطان بنزعاته التي تزل الأقدام وتصارع العقول والأوهام".اهـ [عون المعبود 4/241].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا تثاوب أحدكم فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخل), وفي رواية: (فليضع يدهُ على فمه, فإن الشيطانَ يدخلُ مع التثاؤب). [أخرجه مسلم].
قال الإمام النووي رحمه الله: "قال العلماء: أمر بكظم التثاوب ورده ووضع اليد على الفم لئلا يبلغ الشيطان مراده من تشويه صورته ودخوله فمه وضحكه منه والله أعلم".اهـ [شرح صحيح مسلم 18/166].
وعن أم أبان بنت الوازع بن زارع بن عامر العبدي عن أبيها: "أن جدها الزارع انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فانطلق معه بابن له مجنون –أو ابن أخت له- قال جدي: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلت: إن معي ابناً لي –أو ابن أخت لي- مجنون, أتيتك به تدعو الله له. قال: (ائتني به). قال: فانطلقت به إليه وهو في الركاب, فأطلقت عنه وألقيت عنه ثياب السفر وألبسته ثوبين حسنين, وأخذت بيده حتى انتهيت به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فقال: (أدنه مني, اجعل ظهره مما يليني). قال بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله؛ فجعل يضرب ظهره حتى رأيت بياض إبطيه, ويقول: (أخرج عدو الله, أخرج عدو الله). فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس بنظره الأول, ثم أقعده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه, فدعا له بماء فمسح وجهه ودعا له, فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفضل عليه". [أخرجه أبو داود, وأحمد, وغيرهما, وحسنه ابن عبد البر, وأقره المنذري في "مختصر السنن" 8/86, وجودَّه ابن حجر في "فتح الباري" 11/57, وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/390: "رجاله ثقات".اهـ].
وعن يعلى بن مرة: "أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم معها صبي لها به لمم, فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اخرج عدو الله, أنا رسول الله) قال: فبرأ.." الحديث, وفي رواية:
"ثم فغر فاه فنفث فيه ثلاثاً, وقال: (بسم الله, أنا عبد الله, اخسأ عدو الله)..". [أخرجه أحمد, وابن أبي شيبة, والطبراني, وابن عبد البر, وبمثله الدارمي في سننه 1/10-11, والبيهقي في "الدلائل" 6/24-26, وغيرهم, وجوّد إسناده المنذري في "الترغيب والترهيب" 3/158, وصححه البقاعي في "نظم الدرر" 4/113, وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" 6/159: "إسناده جيد, ورجاله ثقات".].
وعن عثمان بن بشر قال: سمعت عثمان بن أبي العاص يقول: "شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسيان القرآن, فضرب صدري بيده فقال: (يا شيطان اخرج من صدرِ عثمان) –ثلاث مرات-, قال عثمان: فما نسيت منه شيئاً بعد؛ أحببت أن أذكره". [أخرجه ابن ماجة (3548), والبيهقي في "دلائل النبوة" 5/308, والطبراني  في "المعجم الكبير" 9/37/8347, وأبو نعيم في "الدلائل" ص400, والروياني في مسنده, وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" برقم: (2918)].
قال شارح سنن ابن ماجة في "إهداء الديباجة" 4/615: "في حديث عثمان ابن أبي العاص دليل على أن الشيطان يصرع الإنسان ويتلبس به, ويؤذيه..".اهـ
وعن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي؛ قال: "مرّ ابن عمر برجلٍ من أهل القرآن ساقط, فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط! ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم, ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم".اهـ [أورده الشاطبي في "الاعتصام" 1/276, وعزاه لأبي عبيد, وهو في "فضائل القرآن" له ص214, وانظر: "تفسير البغوي" 4/77, و"جامع الأصول" 2/467].
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: "قلت لأبي: إن أقواماً يقولون: إن الجني لا يدخل في بدن المصروع. فقال: يا بني! يكذبون, هذا يتكلم على لسانه".اهـ [مجموع الفتاوى لابن تيمية 19/12, وزاد المعاد لابن القيم 3/84, وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1/233, وآكام المرجان للشبلي ص134, ولقط المرجان للسيوطي ص93].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الجن تدخل في بني آدم والناس لا يرونهم, وإنما يرون جسد المصروع".اهـ [الجواب الصحيح 4/288].
بل حتى أهل الكتاب يوافقون أهل الحق في إثبات دخول الجن في بدن المصروع؛ جاء في سفر لاويين من العهد القديم 20/27: "من كان فيه جان؛ يقتل رجما بالحجارة!".اهـ
وقال الإمام البقاعي رحمه الله: "وفي الإنجيل من ذلك كثير جداً, قال في إنجيل متى ولوقا ومرقس, يزيد أحدهم على الآخر, وقد جمعت بين ألفاظهم:
وجاء –يعني: عيسى عليه الصلاة والسلام- إلى عبر البحر إلى كوة الجرجسيين. وقال في إنجيل لوقا: التي هي مقابل عبر الجليل, فلما خرج من السفينة استقبله مجنون. قال لوقا: من المدينة معه شياطين. وقال متى: مجنونان جائيان من المقابر رديئان جداً, حتى إنه لم يقدر أحد أن يجتاز من تلك الطريق, فصاحا قائلين: ما لنا ولك يا يسوع! جئت لتعذبنا قبل الزمان؟! قال لوقا: وكان يربط بالسلاسل والقيود ويحبس, وكان يقطع الرباط ويقوده شياطين كثيرة. وقال مرقس: فقال له: اخرج أيها الروح النجس! اخرج من الإنسان... [فـ]خرجت الأرواح النجسة...
وفي إنجيل متى: فلما خرج يسوع من هناك قدَّموا إليه أخرس به شيطان, فلما خرج الشيطان تكلم الأخرس, فتعجب الجميع...
ثم قال: حينئذ أتى إليه بأعمى به شيطان أخرس فأبرأه, حتى إن الأخرس تكلم وأبصر, فبهت الجمع كلهم...
وفيه بعد ذلك: فلما جاء إلى الجمع جاء إليه إنسان.. قائلاً له [كما] في إنجيل لوقا: يا معلم! ارحم ابني؛ فإنه يعذب في رؤوس الأهلة, ومراراً كثيرة يريد أن ينطلق في النار, ومراراً كثيرة في الماء. وفي إنجيل مرقس: قد أتيتك بابني وبه روح نجس, وحيث ما أدركه صرعه وأزبده وضرر أسنانه فتركه يابساً.. وفي إنجيل لوقا: وفيما هو جاءٍ به طرحه الشيطان ولبطه. وفي إنجيل مرقس: فلما رأته الروح النجسة من ساعته صرعته وسقط على الأرض مضطرباً مزبداً. ثم قال لأبيه: من كم أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه. ثم قال ما معناه: افعل معه ما استطعت, وتحنن علينا. فقال له يسوع: كل شيء مستطاع للمؤمن. فصاح أبو الصبي وقال: أنا أؤمن؛ فأعن ضعف إيماني. فلما رأى يسوع تكاثر الجمع انتهر الروح النجس, وقال: يا أيها الروح الأصم الغير ناطق! أنا آمرك أن تخرج منه ولا تدخل فيه. فصرخ ولبطه كثيراً وخرج منه, وصار كالميت, وقال كثير: إنه مات, فأمسك يسوع بيده وأقامه فوقف. وفي إنجيل متى: فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان وبرئ الفتى في تلك الساعة...
وقال في إنجيل مرقس: إنه كان يعلم في كفرناحوم مدينة في الجليل. قال: وكان في مجمعهم رجل فيه روح شيطان نجس, فصاح بصوت عظيم قائلاً: ما لنا ولك يا يسوع الناصري؟! أتيت لتهلكنا.. فنهره يسوع قائلاً: اسدد فاك واخرج منه. فأقلقته الروح النجسة وصاح بصوت عظيم وخرج منه. وفي إنجيل لوقا: فطرحه الشيطان في وسطهم وخرج منه ولم يؤلمه...
وفي إنجيل لوقا: .. فلما سمعت امرأة كانت بابنة لها روح نجس جاءت إليه.. وكانت يونانية صورية, وسألته أن يخرج الشيطان من ابنتها.. فقال لها..: اذهبي, قد خرج الشيطان من ابنتك. فذهبت إلى ابنتها فوجدت الصبية على السرير والشيطان قد خرج منها.
وفي إنجيل مرقس: إنه أخرج من مريم المجدلانية سبعة شياطين.
وفي إنجيل لوقا: وكان بعد ذلك يسير إلى كل مدينة وقرية ويركز ويكبر بملكوت الله ومعه الاثنا عشر ونسوة كن أبرأهن من الأمراض والأرواح الخبيثة: مريم التي تدعى المجدلانية التي أخرج منها سبعة شياطين...".اهـ
ثم قال الإمام البقاعي رحمه الله: "وإنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم كافياً؛ لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان".اهـ [نظم الدرر 4/114-122 باختصار وتصرف يسير].
وكذلك فإن من باشر ذلك من الرقاة والقراء, يعلم حقيقة ذلك وأنه ليس بهراء!
قال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله: "يجوز –أي: عقلاً- للجن أن يدخلوا في الناس لأن الجن أجسام رقيقة فليس بمستنكر أن يدخلوا في جوف الإنسان في خروقه كما يدخل الماء والطعام في بطن الإنسان وهو أكثف من أجسام الجن".اهـ [مقالات الإسلاميين 2/108].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يتكلم الجني على لسان المصروع: إما بكلام من جنس كلام الأعاجم الذين لا يفقه كلامهم؛ كلسان الترك أو الفرس أو غيرهم, ويكون الإنسان الذي لبسه الشيطان عربياً لا يحسن أن يتكلم بذلك, بل يكون الكلام من جنس كلام من تكون تلك الشياطين من إخوانهم, وإما بكلام لا يعقل ولا يفهم له معنى".اهـ [الجواب الصحيح 2/341].
وقال أيضاً: "إن الشياطين تلبس أحدهم بحيث يسقط إحساس بدنه, حتى إن المصروع يُضرب ضرباً عظيماً وهو لا يحس ولا يؤثر في بدنه".اهـ [مجموع الرسائل الكبرى 2/307].
وقال أيضاً: "كالمصروع الذي يُضرب ضرباً وجيعاً وهو لا يحس بذلك؛ لأن الضرب يقع على الجني".اهـ [مجموع الفتاوى 35/112].
وقال أيضاً: "الجني إذا دخل في الإنسي وصرعه وتكلم على لسانه؛ فإن الإنسي يتغير حتى يبقى الصوت والكلام الذي يسمع منه, ليس هو صوته وكلامه المعروف, وإذا ضرب بدن الإنسي؛ فإن الجني يتألم بالضرب ويصيح ويصرخ ويخرج منه ألم الضرب, كما قد جرب الناس من ذلك ما لا يحصى, ونحن قد فعلنا من ذلك ما يطول وصفه".اهـ [الجواب الصحيح 4/363, ومجموع الفتاوى 10/349].
وقال أيضاً: "كما يختلف الإنسان وحاله عند الكلام إذا حلّ فيه الجني, وإذا فارقه الجني؛ فإن الجني إذا تكلم على لسان المصروع ظهر الفرق بين ذلك المصروع وبين غيره من الناس, بل اختلف حال المصروع وحال كلامه وسمع منه من الكلام ما يعلم يقيناً أنه لا يعرفه, وغاب عقله بحيث يظهر ذلك للحاضرين, واختلف صوته ونغمته".اهـ [الجواب الصحيح 2/46-47].
وقال أيضاً: "فإنه يصرع الرجل؛ فيتكلم بلسان لا يعرف معناه, ويضرب على بدنه ضرباً عظيماً لو ضرب به جمل لأثَّر به أثراً عظيماً, والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب, ولا بالكلام الذي يقوله, وقد يجر المصروع وغير المصروع, ويجر البساط الذي يجلس عليه ويحول آلات, وينقل من مكان إلى مكان, ويجري غير ذلك من الأمور, من شاهدها أفادته علماً ضرورياً بأن الناطق على لسان الإنسي, والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان".اهـ [مجموع الفتاوى 24/277, وانظر: الجواب الصحيح 4/12].
وقال أيضاً: "وقد يخبرون –أي: الجن الصارعين- بأمور غائبة مما رأوه وسمعوه, ويدخلون في جوف الإنسان..".اهـ [النبوات ص399].
وقال الإمام البقاعي رحمه الله: "مشاهدة المصروع يخبر بالمغيبات, وهو مصروع غائب الحس, وربما كان يلقى في النار وهو لا يحترق, وربما ارتفع في الهواء من غير رافع؛ فكثير جداً لا يحصى مشاهده... إلى غير ذلك من الأمور الموجبة للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطين".اهـ [نظم الدرر 4/112].
ثالثاً: إخراج الجن من بدن المصروع؛ من جنس الجهاد المشروع:

إن الراقي للممسوس ليس بمنأى عن إعتداء الجن عليه, وإيصال الأذى إليه, فهو حينما يسعى لإخراج الجن من بدن إخوانه المسلمين, ويصبر على أذى الجن المعتدين, يُكتب له من الثواب والحسنات, ويكون عمله كأجل القربات..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإن كان الجن من العفاريت وهو –أي: العلاج- ضعيف؛ فقد تؤذيه, فينبغي لمثل هذا أن يحترز بقراءة العوذ مثل آية الكرسي والمعوذات والصلاة والدعاء ونحو ذلك مما يقوي الإيمان ويجتنب الذنوب التي بها يسلطون عليه؛ فإنه مجاهد في سبيل الله, وهذا من أعظم الجهاد؛ فليحذر أن ينصر العدو عليه بذنوبه, وإن كان الأمر فوق قدرته؛ فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها, فلا يتعرض من البلاء لما لا يطيق".اهـ [مجموع الفتاوى 19/53].
فعلى من رام الأجر العظيم, والثواب العميم, أن يتجشم دفع الجن المعتدين, على إخوانه الموحدين, فإن ذلك من قبيل نجدة الملهوف والسائل, ومن باب دفع العدو الصائل, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإذا كان المظلوم له أن يدفع عن مال المظلوم ولو بقتل الصائل العادي؛ فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته؟! فإن الشيطان يفسد عقله ويعاقبه في بدنه, وقد يفعل معه فاحشة إنسي بإنسي, وإن لم يندفع إلا بالقتل جاز قتله.. وهذا فرض على الكفاية".اهـ [مجموع الفتاوى 19/56].
وقد ذكر الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله قصة مؤثرة في كتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" ص 515-516, قال: "قال جابرُ بن نوح: كنتُ بـالمدينة جالساً عند رجلٍ في حاجةٍ، فمرَّ بنا شيخٌ حسنُ الوجه، حسنُ الثياب، فقام إليه ذلك الرَّجل، فسلَّم عليه، وقال: يا أبا محمد! أسأل الله أَن يُعظمَ أجرَك، وأَن يَربِطَ عَلَى قلبك بـالصَّبر.
فقال الشيخ:
وكان يَميني في الوَغَى ومُسَاعِدِي *** فأصبحتُ قَد خانت يميني ذراعُها
وقد صِرتُ حيراناً من الثُّكل باهتاً *** أخا كَلفٍ َضَاقَت عليَّ رباعُها
فقال له الرجل: أبشر؛ فإنَّ الصبر مُعَوَّل المؤمن، وإني لأرجو ألا يحرمك الله الأجر على مُصيبتك!
فقلت له: من هذا الشيخ؟! فقال: رجلٌ منا من الأنصار. فقلت: وما قصته؟ قال: أصيب بابنه، وكان به باراً، قد كفاه جميع ما يعينه، ومنيته عجب! قلت: وما كانت؟!
قال: أحبته أمرأةٌ، فأرسلت إليه تشكو حبه، وتسأله الزيارة، وكان لها زوج، فألحت عليه، فأفشى ذلك إلى صديقٍ له.
فقال له: لو بعثت إليها بعض أهلك، فوعظتها، وزجرتها رجوت أن تكف عنك، فأمسك، وأرسلت إليه إما أن تزورني، وإما أن أزورك، فأبى، فلما يئست منه، ذهبت إلى امرأة كانت تعمل الـــسحر!، فجعلت لها الرغائب في تهييجه، فعملت لها في ذلك.
فبينا هو ذات ليلة مع أبيه، إذ خطر ذكرها بقلبه، وهاج منه أمر لم يكن يعرفه، واختلط، فقام مسرعاً؛ فـصــلى واستعاذ, والأمر يشتد!
فقال: "يا أبت! أدركني بقيد"! فقال: يا بني! ما قصتك؟! فحدثه بـالقصة، فقام، وقيده، وأدخله بيتاً، فجعل يضطرب ويخور، كما يخور الثور! ثم هدأ، فإذا هو مـــيت! والدم يسيل من منخره!".اهـ قلت: نحسبه بإذن الله شهيداً قد قتلته الجن.
وقد حدثني بعض المحبين عن بعض المجاهدين, أنه كان برفقة شخص من أهل الإيمان, في ثغر خرسان, فصُرع صرعاً شديداً فلا زال به حتى مات, فرآه صاحبه في المنام, فقال له: "إني شهيد, قد قتلتني الجن"!
وبت يوماً في احدى أسفاري في بيت مستأجر ليلتي الأولى؛ فرأيت فيما يرى النائم؛ أن الجن في ذلك البيت تخاطبني مهددة وموعدة: "يا تركي اخرج من هذا البيت فإنه مسكون!" فقلت لهم: "سأستعين عليكم بالقرآن".. فكفاني الله شرهم بقراءة القرآن.
رابعاً: النكاح والجنس؛ بين الجن والإنس:
لقد اختلف أهل العلم –فيما أعلم- حول حقيقة نكاح الإنسي للجنية والجني للإنسية وإمكانية وقوع ذلك إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: عدم وقوع ذلك مطلقاً, واستدلوا بمثل قول الله تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)) [الروم].
القول الثاني: امكانية وقوع نكاح الإنسي للجنية, والجني للإنسية, ويحصل الولد منهما, واستدلوا بما ورد في تفسير قول الله تعالى: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)) [النمل].
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "وقيل: عمله –أي الصرح- ليختبر قول الجن فيها إن أمها من الجن, ورجلها رجل حمار, قاله وهب بن منبّه.
فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق, وتعجبت من كون كرسيه على الماء, ورأت ما هالها, ولم يكن لها بد من امتثال الأمر. وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا فإذا هي أحسن الناس ساقا; سليمة مما قالت الجن, غير أنها كانت كثيرة الشعر, فلما بلغت هذا الحد, قال لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها: قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ".اهـ [الجامع لأحكام القرآن 13/137].
"وهي بلقيس بنت السرح بن الهداهد بن شراحيل...
وكان جدها الهداهد ملكا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ولدا كلهم ملوك, وكان ملك أرض اليمن كلها, وكان أبوها السرح يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤا لي, وأبى أن يتزوج منهم, فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن, فولدت له بلقمة وهي بلقيس, ولم يكن له ولد غيرها.
وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كان أحد أبوي بلقيس جنيا) فمات أبوها, واختلف عليها قومها فرقتين, وملكوا أمرهم رجلا فساءت سيرته, حتى فجر بنساء رعيته, فأدركت بلقيس الغيرة, فعرضت عليه نفسها فتزوجها, فسقته الخمر حتى حزت رأسه, ونصبته على باب دارها فملكوها...
ويقال: إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيرا لملك عات يغتصب نساء الرعية, وكان الوزير غيورا فلم يتزوج, فصحب مرة في الطريق رجلا لا يعرفه, فقال: هل لك من زوجة؟ فقال: لا أتزوج أبدا, فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن, فقال: لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبدا. قال: بل يغتصبها. قال: إنا قوم من الجن لا يقدر علينا; فتزوج ابنته فولدت له بلقيس; ثم ماتت الأم وابتنت بلقيس قصرا في الصحراء, فتحدث أبوها بحديثها غلطا, فنمى للملك خبرها فقال له: يا فلان تكون عندك هذه البنت الجميلة وأنت لا تأتيني بها, وأنت تعلم حبي للنساء؟ ثم أمر بحبسه, فأرسلت بلقيس إليه إني بين يديك; فتجهز للمسير إلى قصرها, فلما هم بالدخول بمن معه أخرجت إليه الجواري من بنات الجن مثل صورة الشمس, وقلن له: ألا تستحي؟ تقول لك سيدتنا: أتدخل بهؤلاء الرجال معك على أهلك؟ فأذن لهم بالانصراف ودخل وحده, وأغلقت عليه الباب وقتلته بالنعال, وقطعت رأسه ورمت به إلى عسكره, فأمروها عليهم, فلم تزل كذلك إلى أن بلغ الهدهد خبرها سليمان عليه السلام".اهـ [الجامع لأحكام القرآن 13/138-139 باختصار يسير, وبنحو هذا ذكر أكثر المفسرين].
ويشار هنا أن حديث أبي هريرة مرفوعاً: (أحد أبوي بلقيس كان جنياً) قد رواه أبو الشيخ في "العظمة" وابن عدي في "الكامل" وابن مردويه وابن عساكر كما في "الدر المنثور" وغيرهم, وهو حديث ضعيف في إسناده سعيد بن بشير يروي عن قتادة بما لا يتابع. قاله الإمام ابن حبان في "المجروحين" 1/315, وقال الآلوسي رحمه الله: "والذي ينبغي أن يعول عليه عدم صحة هذا الخبر".اهـ [روح المعاني 19/189].
وقد أخرج أبو داود في سننه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هل رُئي فيكم المغرِّبون؟) قلت: وما المغرِّبون؟ قال: (الذين يشترك فيهم الجن).
جاء في عون المعبود 14/11: "قيل: المغرِّب من الإنسان من خُلِقَ من ماء الإنسان والجن, وهذا معنى المشاركة؛ لأنه دخل فيه عرق غريب, أو جاء من نسبٍ بعيد, وقد انقطعوا عن أصولهم, وبعد أنسابهم بمداخلة من ليس من جنسهم, وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (هل تحس منكن امرأة أن الجن تجامعها), ولعله أراد ما هو معروف أن بعض النساء يعشق لها بعض الجن ويجامعها".اهـ
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن المؤنثين أولاد الجن) قيل لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: "نهى الله أن يأتي الرجل حائضاً, فإذا أتاها سبقه بها الشيطان فحملت منه فأنث المؤنث". ذكره الذهبي في السير 12/321, وابن عدي في الكامل 7/2672, وضعفه ابن القطان الفاسي في "النظر في أحكام النظر" ص344.
ونقل الإمام الذهبي رحمه الله عن الخلال أنه قال: "سمعت أبا بكر المروزي يقول: كان مع الأثرم تيقظ عجيب حتى نسبه يحيى بن معين ويحيى بن أيوب المقابري؛ فقال: كان أحد أبوي الأثرم جنياً".اهـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد, وهذا كثير معروف, وقد ذكر العلماء ذلك وتكلموا عليه..".اهـ [مجموع الفتاوى 19/39].
القول الثالث: امكانية وقوع نكاح الإنسي للجنية, والجني للإنسية, ولا يمكن أن يحصل الولد بينهما, -وهذا هو الأظهر عندي- واستدل القائلون بهذا القول بمثل قول الله تعالى: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)) [الرحمن].
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "قال مجاهد: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله, فجامع معه, فذلك قوله تعالى: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ), وذلك بأن الله تبارك وتعالى وصف الحور العين بأنه لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان. يعلمك أن نساء الآدميات قد يطمثهن الجان, وأن الحور العين قد برئن من هذا العيب ونزّهن, والطمث الجماع. ذكره بكماله الترمذي الحكيم, وذكره المهدوي أيضاً والثعلبي وغيرهما".اهـ [الجامع لأحكام القرآن 17/120].
وقال القرطبي رحمه الله في موطن آخر: "ويستحيل التناسل مع هذا الاختلاف".اهـ [الجامع لأحكام القرآن 13/213].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وصرعهم للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق كما يتفق للإنس مع الإنس, والجني قد يحب الإنسي كما يحب الإنسي الإنسي, وكما يحب الرجلُ المرأةَ, والمرأةُ الرجلَ, ويغار عليه ويخدمه بأشياء, وإذا صار مع غيره؛ فقد يعاقبه بالقتل وغيره, وكل هذا واقع".اهـ [النبوات ص399].
وقال أيضاً: "وكذلك الجنيات منهن من يريد من الإنس الذي يخدمنه ما يريد نساء الإنس من الرجال, وهذا كثر في رجال الإنس ونسائهم؛ فكثير من رجالهم ينال من نساء الإنس ما يناله الإنس, وقد يفعل ذلك بالذكران".اهـ [مجموع الفتاوى 23/82].
وقال الآلوسي رحمه الله: "وقد ذكر عن الحسن فيما روى عنه ابن عساكر أنه قيل بحضرته: إن ملكة سبأ أحد أبويها جنّي, فقال: لا يتوالدون. أي: إن المرأة من الإنس لا تلد من الجن, والمرأة من الجن لا تلد من الإنس".اهـ [روح المعاني 19/189].
وقال أيضاً في الرد على من زعم الولد بينهما: "ثم ليت شعري! إذا حملت الجنية من الإنسي؛ هل تبقى على لطافتها فلا تُرى, والحمل على كثافته فيُرى؟! أو يكون الحمل لطيفاً مثلها فلا يُريان؟! فإذا تم أمره تكثف وظهر كسائر بني آدم, أو تكون متشكلة بشكل نساء بني آدم ما دام الحمل في بطنها؟! وهو فيه يتغذى وينمو بما يصل إليه من غذائها؟! وكل من الشقوق لا يخلو عن استبعاد كما لا يخفى!".اهـ [روح المعاني 19/189].
هذا من حيث الوقوع من عدمه, أما حكم ذلك فقد اختلف أهل العلم أيضاً في حكم نكاح الجني للإنسية والإنسي للجنية, بين الإباحة والتحريم, وبين التجويز والتجريم.
فقد روي عن أبي عثمان سعيد بن داود أنه قال: "كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك –أي: ابن أنس- يسألونه عن نكاح الجن, وقالوا: إن هاهنا رجلاً من الجن زعم أنه يريد الحلال؟ فقال: ما أرى بأساً في الدين, ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل لها: من زوجك؟ قالت: من الجن؛ فيكثر الفساد في الإسلام بذلك".اهـ [انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص390].
ولكن أكثر الفقهاء على المنع من ذلك –وهو الراجح-؛ ولقد جاء في "الفروع" لابن مفلح رحمه الله: "وفي المغني وغيره أن الوصية لا تصح لجنّي لأنه لا يملك بالتمليك؛ كالهبة, فيتوجه من انتفاء التمليك منع الوطء؛ لأنه في مقابله. قال الله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) [النحل: 72], وقال سبحانه: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) [الروم: 21], وقد ذكر أصحابنا هذا المعنى في شروط الكفاءة؛ فهاهنا أولى, ومنع منه غير واحد من متأخري الحنفية وبعض الشافعية... ثم روى عن الحسن وقتادة والحكم وإسحاق كراهتها".اهـ
وعن عقبة بن عبد الله أن رجلاً أتى الحسن بن أبي الحسن فقال: يا أبا سعيد إن رجلاً من الجن يخطب فتاتنا؟ فقال: لا تزوجوه ولا تكرموه. فأتى قتادة فقال: يا أبا الخطاب إن رجلاً من الجن يخطب فتاةً لنا؟ فقال: لا تزوجوه, ولكن إذا جاء فقولوا: إن نحرج عليك إن كنت مسلماً لما انصرفت عنا, ولم تؤذنا.
فلما كان الليل, جاء الجني حتى قام على الباب فقال: أتيتم الحسن فسألتموه فقال لكم: لا تزوجوه ولا تكرموه. ثم أتيتم قتادة فسألتموه فقال: لا تزوجوه ولكن قولوا له: إنا نحرج عليك إن كنت مسلماً لما انصرفت عنا ولم تؤذنا. قالوا: نعم, فإنا نحرج عليك إن كنت رجلاً مسلماً لما انصرفت عنا ولم تؤذنا. فانصرف عنهم ولم يؤذهم".اهـ [أخرجه ابن أبي الدنيا في الهواتف ص106-107].
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وقد تكلَّم في نكاح الجن للإنس الإمام أحمد وغيره, والكلام فيه في أمرين: في وقوعه وفي حكمه.
فأما حكمه فمنع منه أحمد, ذكره القاضي أبو يعلى".اهـ [تهذيب السنن 14/10].
ومن أفضل من رأيته توسع في حكم النكاح بين الجنسين الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله فقد قال بالتحريم وصار إليه لحجج كثيرة كما في "الأشباه والنظائر" ص256-257, و"لقط المرجان" ص32-33 له, منها:
قوله تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [الروم: 21] أي: من جنسكم ونوعكم, كما قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة: 128], أي: من الآدميين.
ومنها: ما روي عن الزهري: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نكاح الجن).
ومنها: أن الزواج شرع للألفة والسكون والاستئناس والمودة, وذلك مفقود في الجن.
ومنها: أنه لم يرد الإذن من الشرع في ذلك؛ فإن الله تعالى قال: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [النساء: 3], والنساء: اسم لإناث بني آدم خاصة, فبقي ما عداهن على التحريم, لأن الأصل في الأبضاع الحرمة حتى يرد دليل على الحل.
ومنها: أنه نهى عن إنزاء الحمر على الخيل, وعلة ذلك: اختلاف الجنس..اهـ
وعليه؛ فمن زعم أنه تزوج من الجن فإن الواجب هجره وتحذير الناس منه ومن باطله, وقد قال الطحاوي: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, قال: قد علينا يَغنم بن سالم "مصر" فجئته فسمعته يقول: "تزوجت امرأةً من الجن" فلم أرجع إليه!".اهـ [انظر: سير أعلام النبلاء 4/459].
خامساً: القول المُعلم, في حكم الاستعانة بالجن المسلم:
لقد أبتلي كثير من الرقاة في هذا الزمن, بالقول بجواز الاستعانة بمسلمي الجن, مما جعلهم يرتكبون بعض المحظورات, وتدور حولهم بعض التهم والشبهات!
وهو يستدلون في ذلك بنحو ما رُوي عن عمر رضي الله عنه في قصة الكرامة التي حصلت له؛ لما نادى: "يا سارية الجبل", قال رضي الله عنه: "إن لله جنوداً يبلغون صوتي".اهـ [أخرجه البيهقي في الدلائل 6/370, وأبو نعيم في الدلائل برقم 525, وابن عساكر في تاريخ دمشق ص286, وغيرهم بأسانيد بعضها حسن؛ كما قال الحافظ ابن حجر وتلميذه السخاوي, وجود بعضها الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 7/129].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وجنود الله هم من الملائكة ومن صالحي الجن؛ فجنود الله بلغوا صوت عمر إلى سارية, وهو أنهم نادوه بمثل صوت عمر, وإلا نفس صوت عمر لا يصل نفسه في هذه المسافة البعيدة, وهذا كالرجل يدعو آخر بعيد عنه؛ فيقول: يا فلان فيعان على ذلك, فيقول الواسطة بينهما: يا فلان. وقد يقول لمن هو بعيد عنه: يا فلان احبس الماء. تعال إلينا. وهو لا يسمع صوته, فيناديه الواسطة بمثل ذلك: يا فلان احبس الماء. أرسل الماء. إما بمثل صوت الأول إن كان لا يقبل إلا منه, وإلا؛ فلا يضر بأي صوت كان إذا عرف أن صاحبه قد ناداه".اهـ
قلت: بل قد يحتمل أن يكون الملائكة أو صالحي الجن قد أوصلوا صوت عمر نفسه إلى سارية؛ كما يصل صوت الإنسان نفسه عبر وسائل الاتصال الحديثة.
واستدلوا أيضاً بنحو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "كان عمر مرة قد أرسل جيشاً, فجاء شخص وأخبر أهل المدينة بانتصار الجيش وشاع الخبر, فقال عمر: من أين لكم هذا؟ قالوا: لشخص صفته كيت وكيت فأخبرنا. فقال عمر: ذاك أبو الهيثم بريد الجن, وسيجيء بريد الإنسان بعد ذلك بأيام".اهـ
وقد جاء ذلك عن عاصم بن كليب الجرمي, حدثني أبي: "أنه أبطأ على عمر خبر نهاونك وابن مقرن وأنه كان يستنصر, وأن الناس كانوا مما يرون من استنصاره ليس همهم إلا نهاوند وابن مقرّن, فجاء أعرابي مهاجر فلما بلغ البقيع قال: ما أتاكم عن نهاوند؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: لا شيء. فأرسل إليه عمر فأتاه فقال: أقبلت بأهلي مهاجراً حتى وردنا مكان كذا وكذا, فلما صدرنا إذا نحن براكب على جمل أحمر, ما رأيت مثله, فقلت: يا عبد الله من أين أقبلت؟ قال: من العراق. قلت: ما خبر الناس؟ قال: اقتتل الناس بنهاوند, ففتحها الله, وقتل ابن مقرّن, والله؛ ما أدري أي الناس هو؟ ولا ما نهاوند؟ فقال: أتدري أي يوم ذاك من الجمعة؟ قال: لا. قال عمر: لكني أدري, عد منازلك. قال: نزلنا مكان كذا ثم ارتحلنا فنزلنا منزل كذا حتى عد. فقال عمر: ذاك يوم كذا وكذا من الجمعة, لعلك تكون لقيت بريداً من برد الجن, فإن لهم برداً. فلبثت ما لبثت, ثم جاء البشير بأنهم التقوا ذاك اليوم".اهـ [ذكره الذهبي في السير 2/357 بإسناد رجاله ثقات].
فمثل هذه الآثار وغيرها يستدل بها من يرى جواز الاستعانة بالجن المسلم, لكننا لمثل هذه الاستدلالات لا نسّلم؛ فعمر –مثلا- لم يسأل الجن غرضاً, بل جاء ذلك عرضاً! وذكره أهل العلم في باب ما جاء في الكرامات, فحذار من تتبع المتشابهات والتشبث بالشبهات.
فالقول الصحيح, والرأي الرجيح: أنه لا تجوز الاستعانة بمسلمي الجن, وذلك لأمور:
منها: أن الاستعانة بالجن المسلم فيها نوع تسخير لهم, وهذا تعد على دعوة نبي الله سليمان عليه السلام, قال الله تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (40)) [ص].
أخرج البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الشيطان عرض لي، فشدّ عليّ ليقطع الصلاة عليّ، فأمكنني الله منه فَذَعَتّه، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه، فذكرت قول سليمان عليه السلام: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي) فَرَدَّه الله خاسيا). قال النضر بن شميل: "فَذَعَتّه –بالذال- أي خنقته".اهـ
وفي رواية لأحمد من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (فما زلت أخنقه حتى وجدت بَرْدَ لعابه بين أصبعي هاتين: الإبهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل).
وقد ذكر العلامة الآلوسي في تفسيره هذا الحديث ثم قال: "لا ينافي ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام أراد كمال رعاية دعوة أخيه سليمان عليه السلام بترك شيء تضمنه ذلك الملك العظيم؛ وإلا فالملك العظيم ليس مجرد ربط عفريت إلى سارية؛ بل هو سائر ما تضمنه قوله تعالى الآتي: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح..)".اهـ
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حراسته لمال الزكاة -الذي ذكرناه آنفاً- فقد أجاب عنه الحافظ ابن حجر بقوله كما في فتح الباري: "وقد استشكل الجمع بين هذه القصة وبين حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضا الماضي في الصلاة وفي التفسير وغيرهما أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن شيطانا تفلت علي البارحة..) الحديث، وفيه: (ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية).
وتقرير الإشكال أنه صلى الله عليه وآله وسلم امتنع من إمساكه من أجل دعوة سليمان عليه السلام، حيث قال: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) قال الله تعالى: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ)  ثم قال: (وَالشَّيَاطِينَ)، وفي حديث الباب أن أبا هريرة أمسك الشيطان الذي رآه، وأراد حمله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والجواب: أنه يحتمل أن يكون المراد بالشيطان الذي همَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يوثقه هو رأس الشياطين الذي يلزم من التمكن منه التمكن منهم، فيضاهي حينئذ ما حصل لسليمان عليه السلام من تسخير الشياطين فيما يريد والتوثق منهم، والمراد بالشيطان في حديث الباب إما شيطانه بخصوصه أو آخر في الجملة لأنه يلزم من تمكنه منه اتباع غيره من الشياطين في ذلك التمكن أو الشيطان الذي همَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بربطه تبدى له في صفته التي خلق عليها، وكذلك كانوا في خدمة سليمان عليه السلام على هيأتهم، وأما الذي تبدى لأبي هريرة في حديث الباب فكان على هيئة الآدميين فلم يكن في إمساكه مضاهاة لملك سليمان. والعلم عند الله تعالى".اهـ [فتح الباري 9/71-72].
ومنها: أن الأصل في الجن الكذب, فأنىّ للإنسي أن يعرف صدق هذا الجني الذي يدعي أنه مسلم؟!
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "وقد قتلت عائشة رضي الله عنها حية رأتها في حجرتها تستمع وعائشة تقرأ، فأتيت في المنام فقيل لها: إنك قتلت رجلاً مؤمناً من الجن الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: لو كان مؤمناً ما دخل على حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل لها: ما دخل عليك إلا وأنت متقنعة وما جاء إلا ليستمع الذكر. فأصبحت عائشة فزعة واشترت رقاباً فاعتقتهم".اهـ [الجامع لأحكام القرآن 16/214-215].
فنجد أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تصدق ذلك الجني بادئ ذي بدأ, ولكن لما وضح لها بعض الأمور اعتقت رقاباً تورعاً لمتانة دينها رضي الله عنها.
ومنها: أن ترك الاستعانة بالجني المسلم في يسير أو عظيم متأكد سداً للذرائع التي قد تُفتح على من يستعين بهم تدريجياً, قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)) [النور].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله: إما في الشرك, وإما في قتل معصوم الدم, أو في العدوان عليهم بغير القتل؛ كتمريضه وإنسائه العلم.. وغير ذلك من الظلم, وإما في فاحشة؛ كجلب من يطلب منه الفاحشة؛ فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان, ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر".اهـ [انظر: مجموع الفتاوى 11/308].. نسأل الله السلامة والعافية.
الخاتمة – نسأل الله حسن الخاتمة-
قد سطرت في هذا الكتيب بعض المسائل, ودللت عليها ببعض الدلائل, لينتفع بها القارئ والقائل, وهي ليست من فضول العلوم, ولا من التخرص المذموم, بل قد سبقني لطرق هذه الأبواب, الكثير من العلماء والكتّاب.
وما صنفت هذا الكتيب لمجرد الأُنس, بل ليكون دعوة للجن كما أنه دعوة للإنس, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أن يستعملهم في طاعة الله ورسوله كما يستعمل الإنس في مثل ذلك؛ فيأمرهم بما أمر الله به ورسوله, وينهاهم عما نهاهم الله عنه ورسوله كما يأمر الإنس وينهاهم, وهذا حال نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وحال من اتبعه واقتدى به من أمته, وهم أفضل الخلق؛ فإنهم يأمرون الإنس والجن عما نهاهم الله عنه ورسوله, إذ كان نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مبعوثاً بذلك إلى الثقلين: الإنس والجن, وقد قال الله له: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].
وقال: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31]".
وقال أيضاً: "فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه, ويأمر الإنس بذلك؛ فهذا من أفضل أولياء الله تعالى, وهو في ذلك من خلفاء الرسول ونوابه".اهـ [مجموع الفتاوى 11/307], نسأل الله أن يجعلنا منهم, وأن يلحقنا بهم. آمين
دعونا الإنسَ والجنَّ جميعاً *** إلى الهدي الرشيدِ إلى الشريعة
فنســــألـــه تعــــالى في جنانٍ *** يبـــوؤنــــا المكــــــانــــــاتِ الرفيعــــة10
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين, وعلى آله وصحبه أجمعين.




0 التعليقات :

إضغط هنا لإضافة تعليق

إرسال تعليق

Blogger Widgets