28 يناير 2014

حكم تكفير المعين



   الكاتب : عبد الله بن أبي بطين






بسم الله الرحمن الرحيم

* * *

قال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى في رده على ابن البكري: (فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الزنا والكذب حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله تعالى فلا نكفر إلا من كفره الله ورسوله وأيضا فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا ليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر...).

إلى أن قال: (ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين ينفون أن يكون تعالى فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنت كافرا لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال.. إلخ).

أفتونا: ما معنى قيام الحجة أثابكم الله بمنه وكرمه؟

* * *


الجواب:

الحمد لله رب العالمين.

تضمن كلام الشيخ رحمه الله مسألتين...

* * *

إحداهما: عدم تكفيرنا لمن كفرنا وظاهر كلامه أنه سواء كان متأولا أم لا:

وقد صرح طائفة من العلماء أنه إذا قال ذلك متأولا لا يكفر.

ونقل ابن حجر الهيثمي عن طائفة من الشافعية أنهم صرحوا بكفره إذا لم يتأول، فنقل عن المتولي أنه قال: (إذا قال لمسلم يا كافر بلا تأويل كفر)، قال: (وتبعه على ذلك جماعة واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما"، والذي رماه به مسلم فيكون كافرا، قالوا: لأنه سمى الإسلام كفرا).

وتعقب بعضهم هذا التعليل فقال: (هذا المعنى لا يفهم من لفظه ولا هو مراده. إنما مراده ومعنى لفظه: إنك لست على دين الإسلام الذي هو حق، وإنما أنت كافر دينك غير الإسلام وأنا على دين الإسلام. وهذا مراده بلا شك لأنه إنما وصف بالكفر الشخص لا دين الإسلام فنفى عنه كونه على دين الإسلام، فلا يكفر بهذا القول وإنما يعزر بهذا السب الفاحش بمـا يليق به، ويلزم على ما قالوه أن من قال لعبد: يا فاسق. كفر لأنه سمى العبادة فسقا، ولا أحسب أحدا يقوله، وإنما يريد أنك تفسق وتفعل مع عبادتك ما هو فسق لأن عبادتك فسق) انتهى.

وظاهر كلام النووي في شرح مسلم يوافق ذلك، فإنه لما ذكر الحديث قال: (وهذا مما عده العلماء من المشكلات، فإن مذهب أهل الحق أن المسلم لا يكفر بالمعاصي، كالقتل والزنا وكذا قوله لأخيه يا كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام).

ثم حكى في تأويل الأحاديث وجوها:

الأول: أنه محمول على المستحل، ومعنى (باء بها) بكلمة الكفر وكذا (حارت عليه) في رواية أي رجعت عليه كلمة الكفر فباء وحار ورجع بمعنى واحد.

الثاني: رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره.

الثالث: أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا نقله القاضي عياض عن مالك وهو ضعيف لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع.

الرابع: معناه أنه يؤول إلى الكفر فإن المعاصي - كما قالوا - بريد الكفر، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر. ويؤيده رواية أبى عوانة في مستخرجه على مسلم: (فإن كان كما قال وإلا فقد باء بالكفر).

الخامس: فقد رجع بكفره، وليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير كونه جعل أخاه المؤمن كافرا، فكأنه كفّر نفسه، إما لأنه كفر من مثله وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان الإسلام. انتهى

وقال ابن دقيق العيد في قوله صلى الله عليه وسلم: (من دعى رجلا بالكفر وليس كذلك إلا حار عليه) ؛ (أي رجع عليه. وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحدا من المسلمين، وليس هو كذلك , وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق من العلماء اختلفوا في العقائد وحكموا بكفر بعضهم بعضا).

ثم نقل عن الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني أنه قال: (لا أكفر إلاّ من كفرني).

قال: (وربما خفي هذا القول على بعض الناس وحمله على غير محمله الصحيح، والذي ينبغي أن يحمل عليه أنه لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعى رجلا بالكفر وليس كذلك رجع عليه الكفر، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما).

وكان هذا المتكلم - أي أبو إسحاق - يقول: الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين إما المكفِّر وإما المكفَّر فإذا كفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا وأنا قاطع أني لست بكافر، فالكفر راجع عليه) انتهى.

وظاهر كلام أبي إسحاق أنه لا فرق بين المتأول وغيره، والله أعلم.

وما نقله القاضي عن مالك من حمله الحديث على الخوارج موافق لإحدى الروايتين عن أحمد في تكفير الخوارج، اختارها طائفة من الأصحاب وغيرهم لأنهم كفروا كثيرا من الصحابة واستحلوا دماءهم وأموالهم متقربين بذلك إلى الله تعالى، فلم يعذروهم بالتأويل الباطل، لكن أكثر الفقهاء على عدم كفرهم لتأويلهم، وقالوا: من استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل كفر. وأن كان استحلاله ذلك بتأويل كالخوارج لم يكفر، والله أعلم وأحكم.

* * *

المسألة الثانية: إن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها.. إلخ:

يشمل كلامه من لم تبلغه الدعوة وقد صرح بذلك في موضع آخر.

ونقل عقيل عن الأصحاب؛ أنه لا يعاقب. وقال: (إن عفو الله عن الذي كان يعامل لأنه لم تبلغه الدعوة وعمل بخصلة من الخير)، واستدل لذلك بما في صحيح مسلم مرفوعا: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحـد من هذه الأمة؛ يهودي أو نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار).

قال في شرح مسلم: (خص اليهود والنصارى لأن لهم كتابا)، قال: (وفي مفهومه أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور)، قال: (وهذا جار على ما تقرر في الأصول؛ لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح) انتهى.

وقال القاضي أبو يعلى في قوله تعالى: (ومــا كنا معذبين حتى نبعث رسولا): (في هذا دليل على أن معرفة الله تعالى لا تجب عقلا، وإنما تجب بالشرع وهـو بعثة الرسل وأنه لو مـات الإنسان قبل ذلك لم يقطع عليه بالنار) انتهى.

وفيمن لم تبلغه الدعوة قول آخر؛ أنه يعاقب اختاره ابن حامد واحتج بقوله تعالى: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى)، والله أعلم.

فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة فلا يعذر بعدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل، وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم ووصف النصارى بالجهل،مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، ونعتقد كفرهم وكفر من شك في كفرهم.

وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر، والشك؛ هو التردد بين شيئين كالذي لا يجزم بصدق الرسول ولا كذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه ونحو ذلك، كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوبها، أو لا يعتقد تحريم الزنا أو عدم تحريمه، وهذا كفر بإجماع العلماء.

ولا عذر لمن كان حاله هكذا بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته لأنه لا عذر له بعد بلوغها له وإن لم يفهمها، وقد أخبر الله عن الكفار إنهم لم يفهموا فقال: (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا)، وقال: (انهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون).

فبين سبحانه أنهم لم يفقهوا، فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا، بل صرح القرآن بكفر هذا الجنس من الكفار، كما في قوله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهــم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا).

قال الشيخ أبو محمد موفق الدين ابن قدامة رحمه الله تعالى - لما أنجز كلامه في مسألة: هل كل مجتهد مصيب أم لا؟ - ورجح أنه ليس كل مجتهد مصيب بل الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين، قال: (وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم).

إلى أن قال: (وأما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا وكفر بالله تعالى ورد عليه وعلى رسوله، فإنّا نعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه، وذمهم على إصرارهم وقاتل جميعهم، يقتل البالغ منهم ونعلم أن المعاند العارف ممن يقل، وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه. والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة، كقوله تعالى: "ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار"، "وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم ارداكم فأصبحتم من الخاسرين"، "إن هم إلا يظنون"، وقوله: "ويحسبون أنهم على شيء"، "ويحسبون أنهم مهتدون"، "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا"، "أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا"، وفي الجملة ذم المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينحصر في الكتاب والسنة) انتهى.

فبين رحمه الله تعالى أنا لو لم نكفر إلا المعاند العارف لزمنا الحكم بإسلام أكثر اليهود والنصارى، وهذا من أظهر الباطل.

فقول الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى: (إن التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة)؛ يدل كلامه على أن هذين الأمرين - وهما التكفير والقتل - ليسا موقوفين على فهم الحجة مطلقا بل على بلوغها، ففهمها شيء وبلوغها شيء آخر، فلو كان هذا الحكم موقوفا على فهم الحجة لم نكفر ونقتل إلا من علمنا أنه معاند خاصة، وهذا بين البطلان بل آخر كلامه رحمه الله يدل على أنه يعتبر فهم الحجة في الأمور التي تخفى على كثير من الناس، وليس فيها مناقضة للتوحيد والرسالة، كالجهل ببعض الصفات.

وأما الأمور التي هي مناقضة للتوحيد والإيمان بالرسالة؛ فقد صرح رحمه الله تعالى في مواضع كثيرة بكفر أصحابها وقتلهم بعد الاستتابة، ولم يعذرهم بالجهل مع أنا نتحقق أن سبب وقوعهم في تلك الأمور إنما هو الجهل بحقيقتها فلو علموا أنها كفر تخرج عن الإسلام لم يفعلوها، وهذا في كلام الشيخ رحمه الله تعالى كثير.

كقوله في بعض كتبه: (فكل من غلا بنبي أو رجل صالح وجعل فيه نوع من الإلهية مثل أن يدعوه من دون الله، نحو أن يقول: يا فلان أغثني أو اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو اجبرني أو توكلت عليك وأنا في حسبك وأنت حسبي، ونحو هذه الأقوال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فأن تاب وإلا قتل).

وقال أيضا: (فمن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم، كفر إجماعا).

وقال: (من اعتقد أن زيارة أهل الذمة في كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك محرم، عرف ذلك فإن أصر صار مرتدا).

وقال: (من سب الصحابة أو واحدا منهم أو اقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي أو أن جبريل غلط؛ فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره).

وقال أيضا: (من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفر قليلا لا يبلغون بضعة عشر أو إنهم فسقوا فلا ريب في كفر قائل ذلك بل من شك في كفره فهو كافر) انتهى.

فانظر كيف كفر الشاك، والشاك جاهل فلم ير الجهل عذرا في مثل هذه الأمور.

وقال رحمه الله في أثناء كلام له: (ولهذا قالوا من عصى مستكبرا كإبليس كفر بالاتفاق ومن عصى مشتبها لم يكفر عند أهل السنة، ومن فعل المحارم مستحلا فهو كافر بالاتفاق).

قال: (والاستحلال اعتقاد أنها حلال وذلك يكون تارة باعتقاد أن الله لم يحرمها وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية أو الرسالة ويكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة، وتارة يعلم أن الله حرمها ثم يمتنع من التزام هذا التحريم ويعاند فهذا أشد كفرا ممن قبله) انتهى.

وكلامه رحمه الله في مثل هذا كثير.

فلم يخص التكفير بالمعاند مع القطع بأن أكثر هؤلاء جهال لم يعلموا أن ما قالوه أو فعلوه كفر، فلم يعذروا بالجهل في مثل هذه الأشياء لأن منها ماهو مناقض للتوحيد الذي هو أعظم الواجبات، ومنها ما هو متضمن معارضة الرسالة ورد نصوص الكتاب والسنة الظاهرة المجمع عليها بين علماء السلف.

وقد نص السلف والأئمة على تكفير أناس بأقوال صدرت منهم مع العلم أنهم غير معاندين.

ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله تعالى: من جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس أو جحد حل الخبز ونحوه أو جحد تحريم الخمر ونحوه أو شك في ذلك، ومثله لا يجهله كفر، وأن كان مثله يجهله عرف ذلك، فإن أصر بعد التعريف كفر وقتل ولم يخصوا الحكم بالمعاند. وذكروا في باب حكم المرتد أشياء كثيرة - أقوالا وأفعالا - يكون صاحبها بها مرتدا ولم يقيدوا الحكم بالمعاند.

وقال الشيخ أيضا: (لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين الخمر كقدامة وأصحابه وظنوا أنها تباح لمن آمن وعمل صالحا على ما فهموه من آية المائدة، قال تعالى: "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات..."، اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا، فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة حتى يبين لهم الحق فإن أصروا كفروا).

وقال أيضا: (ونحن نعلم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأحياء والأموات - لا الأنبياء ولا غيرهم - لا بلفظ الاستغاثة ولا بلفظ الاستعانة ولا بغيرهما، كما أنه لم يشرع لهم السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول) انتهى.

فانظر إلى قوله: (لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول)، ولم يقل حتى يتبين لهم ونتحقق منهم المعاندة بعد المعرفة.

وقال أيضا - لما انجر كلامه في ذكر ما عليه كثير من الناس من الكفر والخروج عن الإسلام -: (وهذا كثير غالب لا سيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق، فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال مالا يتسع لذكره المقال.

وإذا كان في المقالات الخفية؛ فقد يقال أنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين الإسلام بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين أو غيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك، ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك أو يعودون).

إلى أن قال: (وبلغ من ذلك أن منهم يصنفون في دين المشركين والردة عن الإسلام كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب وأقـام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه، وهـذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين وإن كان قد تاب عنه وعاد إلى الإسلام) انتهى.

فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية والأمور الظاهرة فقال في المقالات الخفية التي هي كفر: قد يقال أنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة.

فكلامه ظاهر في الفرق بين الأمور الظاهرة والخفية، فيكفر بالأمور الظاهرة حكما مطلقا، وبما يصدر منها من مسلم جهلا، كاستحلال محرم أو فعل أو قول شركي بعد تعريف، ولا يكفر بالأمور الخفية جهلا كالجهل في بعض الصفات فلا يكفر الجاهل بها مطلقا وإن كان داعية، كقوله للجهمية: أنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال.

وقوله: (عندي)، يبين أن عدم تكفيرهم ليس أمرا مجمعا عليه لكنه اختياره.

وقوله: (في هذه المسألة خلاف المشهور في المذهب)؛ فإن الصحيح من المذهب تكفير المجتهد الداعي إلى القول بخلق القرآن أو نفي الرؤيا أو الرفض و نحو ذلك وتفسيق المقلد.

قال المجد ابن تيمية رحمه الله: (الصحيح أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية فأنا نفسق المقلد فيها، كمن يقول بخلق القرآن أو أن علم الله مخلوق، أو أن أسماءه مخلوقة أو أنه لا يرى في الآخرة، أو يسب الصحابة تدينا، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد، وما أشبه ذلك، فمن كان عالما في شيء من هذه البدع يدعو إليه ويناظر عليه فهو محكوم بكفره. نص أحمد على ذلك في مواضع) انتهى.

فانظر كيف حكموا بكفرهم مع جهلهم، والشيخ رحمه الله يختار عدم كفرهم ويفسقون عنده.

ونحوه قول ابن القيم رحمه الله تعالى، فإنه قال: (وفسق الاعتقاد كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويحرمون ما حرم الله، ويوجبون ما أوجب الله ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ، ويثبتون مالم يثبته الله ورسوله كذلك، وهؤلاء كالخوارج المارقة وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم. وأما غلاة الجهمية فكغلاة الرافضة ليس للطائفتين في الإسلام نصيب، ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا: هم مباينون للملة) انتهى.

وبالجملة فيجب على من نصح نفسه أن لا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله فيه أعظم أمور الدين، وقد كفينا بيان هذه المسألة كغيرها بل حكمها في الجملة أظهر أحكام الدين.

فالواجب علينا الاتباع وترك الابتداع، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم)، وأيضا فما تنازع العلماء في كونه كفرا فالاحتياط للدين التوقف وعدم الاقدام مالم يكن في المسألة نص صريح من المعصوم صلى الله عليه وسلم.

وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والاجماع على كفره، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم الكتاب و السنة مع الاجماع بأنه مسلم.

ومن العجب أن أحد هؤلاء لو سئل عن مسألة في الطهارة أو البيع؟ لم يفتي بمجرد فهمه واستحسان عقله، بل يبحث عن كلام العلماء ويفتي بما قالوه، فكيف يعتمد في هذا الأمر العظيم الذي هو أعظم أمور الدين وأشد خطرا على مجـرد فهمه واستحسانه؟!

فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين، ومنحته من تينك البليتين.

نسألك اللهم أن تهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم


* * *

ومن فتاواه رحمه الله في هذا الباب، قوله:

وأما ما سئلت عنه؛ من أنه هل يجوز تعيين إنسان بعينه بالكفر إذا ارتكب شيئا من المكفرات؟

فالأمر الذي دل الكتاب والسنة وإجماع العلماء عليه أنه كفر مثل الشرك بعبادة غـير الله سبحانه، فمن ارتكب شيئا من هذا النوع أو حسّنه فهذا لا شك في كفره، ولا بأس بمن تحققت منه شيئا من ذلك أن تقول كفر فلان بهذا الفعل.

يبين هذا أن الفقهاء يذكرون في باب حكم المرتد أشياء كثيرة يصير بها المسلم مرتدا كافرا، ويستفتحون هذا الباب بقولهم: (من أشرك بالله كفر وحكمه أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل)، والاستتابة إنما تكون مع معين، ولما قال بعض أهل البدع عند الشافعي: (أن القرآن مخلوق)، قال: (كفرت بالله العظيم).

وكلام العلماء في تكفير المعين كثير.

وأعظم أنواع الكفر الشرك بعبادة غير الله، وهو كفر بإجماع المسلمين ولا مانع من تكفير من اتصف بذلك، كما أن من زنى قيل فلان زان ومن رابى قيل فلان مراب.

والله أعلم

0 التعليقات :

إضغط هنا لإضافة تعليق

إرسال تعليق

Blogger Widgets